محمد غازي الأخرس
أتذكره وكأنني أراه أمامي الآن؛ مكرود شبه معتوه، يتجاوز الأربعين، أعزب، وذو بشرة تميل إلى الاسمرار. أول ما رأيته في معسكر النهروان. كان يبدو غبياً للوهلة الأولى، لكنه كان سريع البديهة، حاضر الجواب، وكانت سيرة أمّه لا تسقط من فمه. يذكرها بمناسبة ودون مناسبة.
لا أتذكر اسم ذلك المكرود، ربما كاظم أو اسم قريب. لم يكن يهتم بشيء، مبتسما دائماً ويصحّ عليه قولهم "ضارب الدنيه بطكاكيه". أتحدث عن خدمتي الغريبة في الجيش الشعبي، إذ تم إجباري على الالتحاق بقاطع من قواطع مدينة الصدر في شهر أيلول عام 1984. لم أكن أتجاوز السابعة عشرة، لكن ذلك ما كان ليمنع سوقي إلى معسكر النهروان، ومنه إلى جبهة هور الحويزة. فأنا كنت طالباً في الدراسة المسائية، وكان طلبة المسائي يؤخذون إلى الجيش الشعبي خلافاً لطلبة الصباحي.
يتذكر أبناء جيلي كيف كان الرفاق من ذوي بدلات السفاري يجمعون المكاريد بشكل عشوائي عنوة، ويدفعون بهم إلى جبهات القتال بغض النظر عن أعمارهم وقدراتهم البدنية. لا يتوانون عن سوق أيّ شخص بما فيهم أشباه المعتوهين من أمثال صاحبنا. المهم أنه حين وصلنا إلى جبهة هور الحويزة، تم توزيعنا مؤقتاً بين مواضع الجيش. لكن في قرار غريب يتساوق مع طبيعته غير المبالية، آثر مقاتلنا العدمي الرقاد في الهواء الطلق. عثر على حفرة كأنّها قبر، وقرر النوم فيها وطلب من الزملاء تغطيته ببطانية. نصحه الجميع بأخذ مكان في أيّ موضع حتى تخصص لنا مواضع خاصة، إلّا أنّه لم يقبل، بل كان يبتسم وكأنه باع قدره للمصادفات. كان منظره يدعو إلى الشؤم، فالمكان الذي ينام فيه يبدو أشبه بالقبر. في فجر اليوم التالي، صحونا على صوت قذيفة، قذيفة عمياء حقا، لقد اختارته وهو يرقد في حفرته لتمزّقه أرباً، فيا للمسكين.. هل رأيتم منحوساً مثله!