الردع النووي.. قوةٌ محدودةٌ في مواجهة الحروب التقليديَّة
لورنس جي كورب
ترجمة: أنيس الصفار
القوى النووية العظمى، الحالية منها والطامحة (مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين)، وكذلك الدول الأخرى الصغيرة نسبياً الحائزة على أسلحة نووية (معلنة كانت أو يعتقد وجودها الى حد كبير) دائبة جميعاً على استثمار الأموال والجهود في تحديث شامل باهظ التكاليف لترساناتها النووية. هذا النهج الدؤوب المتصاعد لبلوغ نشرٍ أوسع نطاقاً وأكثر كلفة للأسلحة النووية يرتكز على فرضية أن الأسلحة النووية ضرورة لا محيد عنها ورادع كافٍ لدرء الحروب الكبرى، بما فيها الحرب النووية. بيد ان هذا الافتراض بات يواجه تحدياً واسع النطاق.
الظاهر في هذه الأيام هي الرغبة المتنامية لدى الأطراف الفاعلة، المنتمية الى دول او غير المنتمية، للاندفاع نحو حروب واسعة تقليدية أو غير تقليدية، حتى لو أدى الأمر الى الاصطدام بمصالح القوى النووية. يتجلى من هذا أن الترسانة النووية لأية دولة وسط غياب القدرة على درء أو كسب الحروب التقليدية أو الهجمات غير التقليدية التي تشن على مصالحها الحساسة ليست في الواقع سوى نجاح ذي بعد واحد محدود يتربع فوق قمة تل من الإخفاقات وقصور الكفاءة العسكرية.
حربٌ تقليديَّةٌ تسبق الضربة النووية؟
قد يرد المعترضون على النظرة المذكورة بأن الأسلحة النووية وسيلة فعالة لردع الاعتداء النووي على الدولة ومصالحها الحيوية أو ممارسة دول أخرى الابتزاز النووي بحقها أو حق حلفائها. لكن هذا المفهوم لا يحمل في طياته ما يكفي لطمأنة قادة الدول ومخططيها العسكريين ذوي التفكير العملي ولتبديد مخاوفهم، لأن الضربة النووية المبيتة التي تهوي "بلا سابق إنذار" من قبل أية دولة نووية على دولة نووية أخرى من دون وجود حرب تقليدية تسبقها تعدّ من المسارات الأبعد احتمالاً لنشوب الحرب النووية. لكن الاحتمال الأرجح بكثير هو ان تتطور الحرب التقليدية ويطول أمدها وتستمر بالتوسع الى ان تنقلب الى قرار من احد الطرفين المتحاربين باللجوء الى السلاح النووي أولاً.
لذلك فإن الإحتمال ضعيف في أن يبادر الطرف الذي يشعر أنه الأقرب لكسب الحرب التقليدية الى السلاح النووي، أو الى توجيه الضربة النووية الأولى، بل إنه أبعد من احتمال لجوء الطرف الآخر المنحدر نحو الهزيمة إليها.. إذ إن الهدف من قرار المبادرة أولاً باستخدام السلاح النووي يكون على الأغلب هو تدارك هزيمة أخذت تلوح في أفق الحرب التقليدية. وعلى الرغم من ذلك لا يمكن استبعاد إمكانية اللجوء الى "الاستخدام الثاني" للسلاح النووي كرد انتقامي بمواجهة خصم مسلح نووياً، بل إن توقع ذلك يكاد يكون محققاً. لذا فإن القوة التي تقرر اللجوء الى سياسة "الاستخدام الأول" للسلاح النووي تكون قد فتحت الباب؛ عن علم؛ أمام عملية تصعيد تتطلب السيطرة عليها التوصل الى اتفاقية ضمنية بعدم الاستمرار في صعود سلم التوتر الى أبعد من تلك النقطة.
حرب أوكرانيا مثالاً
حرب روسيا ضد أوكرانيا، التي اندلعت في شباط 2022، خير مثال على فشل الردع التقليدي في احتمال أن يجر الأمور عند نهاية المطاف الى التوسع نحو حرب نووية، مع كل مرحلة تتفاقم خلالها أعباء القتال من حيث التكاليف الاقتصادية والدمار المجتمعي. والواقع إن الدعم الكبير الذي أمدّ به حلف الناتو أوكرانيا هو الذي مكّنها من مواصلة القتال، الى جانب استمرار المقاومة الأوكرانية ودقة اجهزتها الاستخبارية وحنكة قادتها التكتيكية عند نشر القوات، يضاف الى ذلك على الجانب الآخر قصور القوات الروس عن حسم الأمر بقطعاتها التقليدية ومواردها العسكرية التي تفوق ما يمتلكه الأوكرانيون بفارق عظيم.
الوضع الجامد الراهن، حيث لا غالب ولا مغلوب، أصاب الروس بإحباط كان يفصح عن نفسه بإطلاق تهديدات بين حين وآخر باللجوء الى "الاستخدام الأول" للسلاح النووي من قبل الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" وأعضاء آخرين في الحكومة الروسية وأكاديميين روس لهم شأنهم. ومثلما فشل حلف الناتو في عملية الردع التقليدي قبل اندلاع الحرب في شباط 2022 فشلت روسيا ايضاً في كسر شوكة المقاومة الأوكرانية العنيدة، التي شملت عملياتها توجيه ضربات الى داخل الأراضي الروسية، باستخدام الطائرات المسيرة والصواريخ بعيدة المدى، التي زودتها بها الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو. هذا الجمود العسكري في أوكرانيا لا بد أن يفضي عاجلاً او آجلاً الى فتح باب التفاوض وابرام اتفاقية سلام مهما تكن مرارة الصفقة في نظر المتشددين من الأطراف المختلفة.
الدليل الآخر على عدم جدوى الردع النووي أو تراجع أهميته الموضوعية، ما لم يكن مسنداً بالردع التقليدي المرتكز على اساس القدرة على كسب الحرب، يتجلى في الحروب الدائرة في الشرق الأوسط. فاسرائيل لديها أسلحة نووية، لكنها رغم ذلك تعرضت للهجوم في 7 تشرين الأول 2023 من قبل حماس بدعم إيراني بسبب فشل الردع التقليدي الاسرائيلي (ومعه فشل الجهد الاستخباري الستراتيجي). على الجانب الآخر تتطلع إيران هي الأخرى للانضمام الى نادي الدول الحائزة على الأسلحة النووية، ولم تفلح الولايات المتحدة او إسرائيل في منع طهران من المضي على طريق امتلاك القنبلة النووية من خلال فرض تهديد تقليدي ذي ثقل ومصداقية.
إيران النووية سوف تفتح الباب مشرعاً امام كابوس انتشار نووي شرق أوسطي قد يشمل المملكة السعودية ومصر وتركيا باعتبارها دولاً طامحة الى امتلاك الاسلحة النووية. ولكن، على خلاف هجوم الولايات المتحدة على العراق في عهد صدام حسين في 2003، لا يبدو أن شن هجوم مفاجئ بقوات مشتركة على طهران وارداً. لذا فإن العقوبات الاقتصادية والحرب الالكترونية هي كل ما يتبقى تقريباً في جعبة الولايات المتحدة للتعامل مع نظام المرشد ومؤيديه الداعمين له في فيلق الحرس الثوري الاسلامي.
في سياق الحديث عن عبث محاولة تطبيق مبدأ الردع التقليدي، نذكر كيف تمكنت جماعة من المقاتلين العنيدين المحصورين ضمن حدود اليمن، الذين كانت قدراتهم ذات يوم مقتصرة على الأسلحة الصغيرة وسيارات جيب، من تجميع ترسانة من الصواريخ والطائرات المسيرة والتسبب بشلل شبه تام للحركة في البحر الأحمر واحتجاز شطر كبير من سلسلة الشحن والتوريد المؤثرة على بلدان عديدة في مختلف انحاء العالم كرهينة. لقد اعتادت القوى العظمى على إطلاق صفة "قراصنة" على أمثال هذه الحركات ثم إرسال قوات كافية للتعامل معهم بما يقتضيه الحال – باعتبارهم تنظيمات مسلحة لا حكومات. رغم هذا يواصل الحوثيون الذين تدعمهم إيران التعرض للسفن التابعة لجنسيات عديدة دون خوف من تلقي رد انتقامي من أحد، باستثناء قلة من الدول. فقد حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا التصدي لهم ووجهتا الضربات الى مستودعات سلاحهم ومعاقل قياداتهم التي أمكن تشخيصها، رغم ذلك يبقى الوضع مبعث احراج للعالم والمجتمع الدولي بما في ذلك القوى النووية.
قد يعترض بعض المحللين بالقول إننا نذهب أبعد مما يجب حين نناقش مسألة الردع النووي ونستشهد بالوضع في اليمن، في حين أن إحدى السمات المفترضة للأسلحة النووية، حتى بصرف النظر عن جانب الردع، هي أنها تضفي على حائزها قدراً من الهيبة المضافة والصيت مغزاهما عدم الاستهانة به او العبث معه. لكن هذه المهابة التي يضفيها امتلاك السلاح النووي تبدو أدنى اهمية عند التعامل مع تنظيمات من المقاتلين التقليديين والمهاجمين غير التقليديين من امتلاك القدرة على نزع أسلحة العدو أو الإطاحة بنظام حكمه أو، كما في حالة الجماعات المسلحة، ضربه بدقة قاتلة.
كوريا الشمالية
الرادع النووي لدى أميركا ليس موضع شك بحد ذاته، بيد ان الولايات المتحدة وسواها من قوى الطليعة في الجانب العسكري تواجه اليوم صعوبة اكبر في جعل تأثيرات الردع التقليدي تدوم طويلاً. بالمقابل فإن الردع التقليدي، حين لا يكون مشفوعاً بالمصداقية، سوف يغري القادة بالكفّ عن التبجح والتلويح بالقوة العسكرية الستراتيجية ليستبدلوها مرغمين بضمادة السلاح النووي في محاولة لتدارك الموقف، إن كانوا يملكون هذا السلاح فعلاً.
كوريا الشمالية خير مثال على الحالة الأخيرة، إذ من شبه المؤكد ان بيونغ يانغ سوف تخرج خاسرة من أي حرب تقليدية كبرى مع كوريا الجنوبية، التي تحظى بدعم الولايات المتحدة وحلفائها. لذا تعمد كوريا الشمالية الى تعزيز قدراتها النووية الاستراتيجية، بل انها أجرت اختبارات لصواريخها البالستية العابرة للقارات القادرة على الوصول الى الأراضي الوطنية للولايات المتحدة، ناهيك عن اطلاقها العديد من الصواريخ في هجمات على حلفاء أميركا في منطقتي المحيطين الهندي والهادي. هذا الاستعراض الخطير للقوة النووية من كوريا الشمالية يمكن ان يستثير ردود فعل من جانب اليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما من الجهات الإقليمية المؤثرة التي تشعر بأنها مهددة بصورة مباشرة او غير مباشرة، وهذه الردود ربما ستتمثل بالتوجه نحو التسلح النووي.
ثمة رد جدلي مقابل ومعقول على المثال الذي سقناه، إذ يمكن للمرء القول مثلاً أن كوريا الشمالية، قد نجحت في البقاء والاستمرار رغم اعتبارها نظاماً متمرداً على القانون، في حين فشل صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا دون ذلك لأن أي من النظامين لم يكن يمتلك رادعاً نووياً يواجه به العدوان التقليدي وتغيير النظام. وفق هذا المنظور بإمكان أي قوة نووية مهما كانت صغيرة أن تردع مهاجماً يتمتع بقوة تقليدية متفوقة كثيراً عليها من خلال التهديد بإيقاع خسائر بالأخيرة لا طاقة بها على تحملها.
بيد أن هذه الحجة تسقط من الحساب نقطة بالغة الحساسية. فلكي تؤدي القوة النووية دورها كرادع ذي مصداقية يجب أن تكون لديها القدرة على تحمل الضربة الأولى التي يشنها عليها مهاجموها المتوقعون ثم النجاة بعدها والبقاء، وإلا فإن كل ما ستفعله القوة النووية الصغيرة التي بالوسع تدميرها بضربة استباقية، سواء بالأسلحة التقليدية او النووية، في الواقع هو اجتذاب الاخرين لتسديد مثل تلك الضربة اليها. فالقوى النووية غير المصحوبة بمقومات الصمود والمواصلة ستكون حافزاً على فشل الردع، بدلا من كونها سياسات معتمدة كفيلة بدرء العدوان.
نشوب صراعين متزامنين
في منطقتين متباعدتين
أشد اختبارات الصدمة المحتملة ارهاقاً للردع التقليدي الأميركي على المدى القريب، يتمثل في تحدي نشوب صراعين كبيرين متزامنين أو شبه متزامنين في أوروبا وآسيا معاً. لأن المعيار الذي أنضجته القوة الأميركية إبان الحرب الباردة في التخطيط لمعركتين اقليميين كبيرتين، او لظرفين اقليميين طارئين واسعين، قد ولى بانقضاء حقبة الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفييتي. لذا ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وآسيا الآن أن يتوقعوا مزيداً من السلوكيات السياسية والعسكرية الأشد حزماً من جانب روسيا والصين مما شهدوه منهما حتى الآن، وقد بدأت هاتان القوتان فعلاً بزيادة التعاون بينهما منذ الآن عن طريق التدريبات العسكرية المشتركة.
هذا التعاون لا يعني أن شراكتهما سوف تمتد حتماً لتشمل العمليات العسكرية المشتركة في المستقبل القريب، كما أن التعاون لا يزال أدنى كثيراً من بلوغ مستوى التوافق العملياتي العسكري، الذي تتطلبه المسؤولية المشتركة خلال المعركة. علاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة تحظى بدعم حلفائها في أوروبا وآسيا، وهو دعم يتعدى مجرد الجانب الشكلي الرمزي وينطوي على قدرة توفير التكنولوجيا والتدريب والقوات المطلوبة لدعم الردع والدفاع في مسرح العمليات. رغم ذلك سوف تقتضي متطلبات الردع والدفاع في هذه الحالة، الملحة الى ابعد الحدود، وجود صناع سياسات يمتلكون الرؤية الستراتيجية وقادة يتمتعون بالمخيلة والجرأة والصلات الدائمة بين الشركاء المتحالفين عبر ميادين الصراع في البر والبحر والجو والجوفضاء وفي الفضاء السيبراني. بيد أن فشل الردع والدفاع التقليدي ضمن هذا السيناريو من شأنه مع الأسف أن يفتح الباب أمام تصعيد نووي لا يمكن التنبؤ بعواقبه.
عن مجلة "ذي ناشنال إنتريست"