العشوائيات.. واقعٌ مؤلمٌ وقانونٌ يقبعُ في أدراج النسيان

ريبورتاج 2025/01/07
...

   رحيم رزاق الجبوري

  تصوير: خضير العتابي

ينتابك شعور بالتفاؤل والارتياح عندما تشاهد المباني الشاهقة والمراكز التجارية اللامعة، وتلمح المجمعات السكنية الحديثة التي تزين شوارع بغداد وتبشر بمستقبل أفضل. لكن سرعان ما يتحول هذا الشعور إلى خيبة أمل واحباط عندما تدرك أن هناك حوالي 4 آلاف منطقة عشوائية في العراق، يسكنها نحو 10 % من السكان، وهي مناطق تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة المدنية.

يعد ملف العشوائيات والتجاوزات السكنية، من أبرز التحديات التي تواجه مشاريع تطوير البنى التحتية، وإيجاد سكن لائق لكل مواطن، وفقاً لما نص عليه الدستور، الأمر الذي دفع أصحاب القرار في السلطتين التنفيذية والتشريعية، والجهات الأخرى ذات العلاقة، إلى طرح الكثير من الحلول، اشترك فيها الفريق الوطني للتنمية الاقتصادية والصناعية، الذي يضم ممثلين عن وزارات التخطيط والإعمار والاسكان والبلديات والأشغال العامة، إضافة إلى وزارتي المالية والداخلية، ولجنة الخدمات النيابية، والتي خلصت إلى إيجاد مشروع قانون لمعالجة العشوائيات.

وتقول وزارة الإعمار والاسكان، إن القانون لم يرَ النور إلى الآن، على الرغم من تعاقب حكومات عدة، وذلك لوجود اعتراضات على بنود مسودة هذا القانون.

وبحسب المتحدث باسم وزارة الإعمار، نبيل الصفار، فإن "الوزارة قامت وبالتعاون مع منظمة المستوطنات البشرية (الهابيتات) بإعداد مسودة قانون جديد لمعالجة مشكلة العشوائيات إلا أنه لم يقر أيضاً.

المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، أشار إلى أنه في آخر تحديث للبيانات الصادر في نهاية عام 2022، بلغ عدد العشوائيات في عموم العراق 4000 تجمع عشوائي، وكان لمدينة بغداد الحصة الأكبر.

وأضاف في حديثه لـ"الصباح" أن "العشوائيات نشأت في مناطق مختلفة في البلاد على أراضٍ زراعية أو تجارية أو خدمية، وكذلك على أراضٍ مملوكة للدولة (وهي النسبة الأكبر)، وبعضها مملوكة للقطاع الخاص. وتتوزع في مراكز المدن وتخومها بحسب توفر الأرض. علماً أن عدد سكان العشوائيات يقترب من 4 ملايين نسمة".

ويعزو الهنداوي ظهور هذه العشوائيات وانتشارها بهذا الشكل، إلى سببين رئيسين، الأول: ظهورها بشكل لافت بعد 2003، ويعود إلى ضعف تطبيق القوانين في تلك الفترة وبالتالي أصبحت أمراً واقعاً. والثاني يرتبط بوجود حاجة ملحة للسكن. ما دعا السكان للجوء إلى البحث عن بدائل. والبديل هو هذه التجمعات العشوائية.

وعن مخرجات اللجنة التي تشكلت بهذا الصدد، يشير بالقول: "إن اللجنة مشتركة بين وزارة التخطيط وجهات أخرى بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية UN-HABITAT وسبق أن وضعت خريطة طريق في سنوات سابقة، والآن أيضاً هناك نقاشات وإجراءات ومباحثات حول إعادة تحديث هذا الملف. وخصوصاً أن التعداد السكاني سيعطينا بيانات جديدة وحديثة عن واقع هذه التجمعات العشوائية بشكل أشمل وأوسع وفي جميع المحافظات". 

ويختم الهنداوي حديثه، مؤكداً "أن ملف التجمعات العشوائية في العراق. هو أحد الملفات الضاغطة على الواقع العراقي، فهناك ضغط خدماتي واجتماعي وجوانب أخرى. فالحكومة ملزمة بمعالجة هذا الملف والذي يمثل أولوية بالنسبة لها، كونها مطالبة بتنفيذ شبكات ماء وصرف صحي وغيرها. وهذا ما ترجم من خلال فريق الجهد الهندسي. ولهذا توجهت الحكومة إلى إنشاء مدن سكنية جديدة، والتي ستسهم بشكل كبير في معالجة هذه المشكلة".

 إلى ذلك تحدثت المهندسة الإنشائية تمارة الشمري، لـ(الصباح): "‏إن ظاهرة السكن العشوائي تعد من الظواهر الأكثر سلبية، والتي تعاني منها معظم المدن سواء في الدول النامية، وكذلك العديد من المدن الكبرى في العالم لما لها من أعباء ومشكلات سواء اقتصادية أو اجتماعية أو ديموغرافية أو بيئية أو أمنية؛ وذلك بسبب انعدام القيم الجمالية في تصميم وهندسة المباني والطرق والخدمات".


وتضيف: "أن أحد أهم التأثيرات السلبية في السكن العشوائي هو ضعف البنى التحتية وغياب التخطيط العمراني السليم.  وسكان هذه المناطق يعانون من نقص الوصول إلى مرافق الصرف الصحي ومصادر المياه النظيفة والكهرباء وسوء التهوية والخدمات الأخرى نتيجة للظروف المعيشية غير الطبيعية في مناطقهم، وكذلك الافتقار للخدمات الأساسية. ولهذا فإن هذه المناطق تعاني من التلوث البيئي وتردي الوضع الصحي للسكان وانتشار المشكلات الاجتماعية كالجرائم والبطالة".

‏وتشير الشمري (المختصة في التخطيط والتصاميم المعمارية والإنشائية للمدن والأحياء السكنية)، بالقول: "إن نشوء هذه التجمعات، يعود لأسباب عديدة، منها الهجرة من الأرياف إلى المدن، والحروب التي مر بها بلدنا الحبيب، ما أدى لحدوث كوارث عمرانية في مناطق سكناهم أجبرتهم إلى الهجرة بأعداد كبيرة، وكل ذلك تسبب بزيادة سكانية هائلة. وجعل الكثيرين بلا مأوى، وجعلهم مرغمين على السكن في مساحات الأرض الفارغة وهذا ما يسمى بالسكن العشوائي".

ويبقى تأثير العشوائيات قائماً ومؤثراً في المجتمع، وذلك عبر إفرازه ظواهر وعادات وأنماط سلبية ودخيلة؛ بسبب السكن غير الملائم وانتشار الفقر لساكنيها. ولهذا يرى د. يحيى حسين زامل (باحث انثروبولوجي): "أن العشوائيات والمناطق الهامشية للمدن لا يخلو أي بلد منها، وهي دلالة على أزمة السكن وسوء التخطيط، وهجرة السكان من الريف إلى المدينة، إذ تعد هذه المدن المنطقة الأولى في الهجرة الداخلية ثم الانتقال من الهامش إلى المركز تدريجياً، أو هي مناطق سكن تلائم الناس الفقراء من ناحية البيئة والنمط والعيش". 

ويضيف: "تنتشر في هذه المناطق ثقافة خاصة أسماها علماء الانثروبولوجيا بـ (ثقافة الفقر)، وتمتاز هذه الثقافة بطابع ونمط معينين تجعل أسرهم فقيرة لأجيال، فيميلون إلى الكسل والعجز والاعتماد على موارد اقتصادية يومية بسيطة لا تكفي لسد احتياجاتهم، فينعكس هذا النمط على تفكيرهم وذهنهم فيجعلهم أسرى له".


ويشير زامل إلى أن "هذه المناطق تشكل في بعض الأحيان تهديداً لمراكز المدن والسلم الاجتماعي. إذ تنتشر فيها الأعمال الممنوعة والمحرمة، من تجارة المخدرات وتعاطيها وانتشار عصابات السرقة والاختطاف والاتجار بالبشر وبيع الأعضاء البشرية وغيرها، وقد تدفع الحاجة المادية والرغبة في الربح السريع الكثير من شباب هذه المناطق إلى السلوك المنحرف؛ ما يؤدي إلى تقويض بنية النظام الاجتماعي للمجتمع".

ويختم الباحث حديثه، لـ (الصباح)، موضحاً "أن أفضل حل لهذه المناطق هو إعداد خطة سكنية واطئة الكلفة، تناسب دخلهم الاقتصادي المحدود مع دعم حكومي من جانب اقتصادي واجتماعي ونفسي، وتحويل هذه المناطق تدريجياً إلى مدن حديثة مع تأهيل السكان لنمط ثقافي واجتماعي وتربوي جديد يسعى إلى تغير نمط (ثقافة الفقر) الذي ينتشر في هذه الأنحاء".

جميع مفاصل الدولة عازمة على إيجاد حل لهذه الظاهرة، فالحكومة تعدها أولوية في منهاجها وبرنامجها، وكذلك يبرز دور مجلس النواب الذي يسهم في تشريع القوانين وإيجاد صيغة حل لهذه المشكلة. ولهذا يوضح، لـ (الصباح) النائب محمود خلف العبيدي (عضو مجلس النواب العراقي عن لجنة الخدمات والإعمار النيابية) آخر المستجدات في هذا الملف، قائلاً: "مما لا شك فيه أن هذه العشوائيات ظهرت بعد أحداث 2003. حيث تمت أغلب هذه التجاوزات على الممتلكات العامة وعلى الأراضي المخصصة لدوائر الدولة. وبالتأكيد فقد أثرت بشكل كبير في تطوير المدن وبناء الدوائر الحكومية وبناء المدارس التربوية وإكمال البنى التحتية، التي توقفت بسبب وجود هذه العشوائيات". مؤكداً  أن "الحل الوحيد لمعالجة هذه العشوائيات يتم من خلال سن قانون خاص لهذه العشوائيات، وإيجاد حلول مناسبة عبر توفير السكن والعيش الكريمين للمواطن العراقي". مجدداً طلب لجنة الخدمات والإعمار النيابية للحكومة الموقرة، بإرسال قانون العشوائيات إلى مجلس النواب لمناقشته وإقراره لنمضي قدماً نحو عراق خال من هذه الظاهرة، وينعم ساكنوه بالأمن والاستقرار والعيش الكريم.