إدوارد سعيد والبحث عن تعريفٍ عمليّ ٍ للهويَّة الفلسطينيَّة
ترجمة وتقديم: د. نادية هناوي
العلاقة بين الهوية والأرض حتمية ومصيرية، وما من وجود للفرد والمجتمع إلا بالوقوف على أرض ثابتة. هذا ما يشدد ادوارد سعيد عليه في كتابه( مسألة فلسطين) من دون أن يتوانى عن تحديد مواضع الإخفاق والسلبيات التي جعلت الفلسطيني- أيا كانت درجة صلته بالتنظيمات الحزبية- ينوء بعبأين: عبء السياسة وعبء الهوية. وهو ما يجعل مهمة “معرفة المسار الأفضل بشكل مجرد” عملية صعبة.
وكثيرا ما يؤشر المفكر سعيد في تحليلاته للوضع الفلسطيني على ظواهر سياسية مهمة اتضحت بعد تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية؛ من قبيل ظاهرة الصراع الداخلي بين فلسطينيي المنفى، وأن الدول العربية لا يمكنها حل النزاع مع إسرائيل عسكريًا، وأن الحل السياسي صار هو النظام الجديد للمرحلة، وجزء منه هو عودة النفوذ الأمريكي بشكل كبير إلى المنطقة، وأن أزمات عامي 1970-1971 و1975-1976 على التوالي ترتبت عليها خسائر فادحة في الأرواح. والمحصلة كانت زيادة في نفوذ سلطة منظمة التحرير الفلسطينية. وتفاصيل أخرى كثيرة يستعرضها الفصل الثالث من الكتاب المذكور أعلاه، وفيه يقول ادوارد سعيد:
( تُصاغ قرارات حاسمة بشأن قضايا ذات أهمية قصوى للشعب الفلسطيني بأكمله - مثل الموقف الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية أواخر عام 1977 بشأن قرار الأمم المتحدة 242 - في بضع جمل سريعة، بينما تأخذ مسألة تتعلق بخلاف عابر بين عضو رافض في مكتب ما وعضو من حركة فتح في المكتب المجاور له صفحات عديدة من الحجج المطولة وغالبًا غير الواضحة.
هذا الإحساس بانحراف الأولويات وعدم التماسك الذي أشرت إليه سابقًا ليس نتيجة الفلسفات السياسية المتصارعة حسب، بل أيضًا بسبب الطبيعة المجزأة للوجود الفلسطيني. فعندما لا تكون للفرد أرض ثابتة تحت قدميه، يصبح من الصعب جدًا معرفة المسار الأفضل بشكل مجرد. ثم هناك الخليط المعقد والمربك من الولاءات والانتماءات السياسية، التي تشبه شبكة من الحبال السرّية شبه المرتخية، تربط الفلسطينيين بعضهم ببعض وبالدول التي يقيمون فيها. في العالم العربي وحده، تشعر كل دولة أو نظام بحاجتها إلى نوع من النفوذ يتم ضمانه بوكالة أو حزب يعمل في السياسة الفلسطينية، نظرًا لما يوفره ذلك للسياسيين العرب من قوة وشرعية وسلطة بوصفهم مساهمين في النضال الفلسطيني.
وهكذا، فإن كل فلسطيني تقريبًا، سواء بوعي أو دون وعي، يمارس السياسة وهو ينوء بعبء كبير، يحمل على ظهره الأعباء الفكرية والمادية العراقية أو المصرية أو السورية أو السعودية أو غيرها. وقد أظهر ياسر عرفات شيئًا من العبقرية في احتواء كل ذلك، بل واستغلالها لصالحه ولكن أدى ذلك في بعض الأحيان إلى حرب داخلية دموية، مثل الصراع بين فتح والرافضين المدعومين من العراق خلال النصف الأول من عام 1978.
في رأيي، ضُلّل كثير من الفلسطينيين اعتقادا منهم بأن الطاقة المحفزة للحركة تكمن في فلسفة الكفاح المسلح، وهو المفهوم الذي يُفترض أن الجماعات الفلسطينية هي التي أدخلته إلى الساحة جنبًا إلى جنب مع النظرية العامة لحرب الشعب people’s war. بالتأكيد، خلال أواخر الستينيات، كان الفلسطينيون وحدهم يجرؤون على تصور النضال العربي بمصطلحات مناهضة للإمبريالية؛ فبعد عام 1967، بشكل عام، قبِل كل من ناصر والبعثيين حتمية الرؤية العالمية المستوحاة من قرار الأمم المتحدة 242، والذي تجلّى في قبول خطة روجرز عام 1970.
كانت الأهمية الفعلية للكفاح المسلح الفلسطيني معقدة، لكنها مثلَّت، في الأقل وعلى مستوى واحد، نهاية النضال التحرري وبداية جهد قومي، تُستخدم فيه الأسلحة (والجيوش) لحماية سلطة وطنية مركزية. هذا ما فعله قرار الأمم المتحدة 242 بالناصرية والبعثية، حيث حوّل الجيش من قوة ثورية مناهضة للإمبريالية إلى قوة محافظة، تدافع بالضرورة عن الوضع الراهن. وبذلك، كانت الأسلحة الفلسطينية أقل احتمالاً لأن تكون ثورية، وأكثر احتمالاً لأن تكون أسلحة لدولة قيد التشكل. ولكن بشكل عام - وربما يكون هذا تناقضًا صغيرًا - تميل السياسة الفلسطينية إلى التوافق أكثر من الميل إلى الصراع. يمكن تفسير ذلك بمقارنة مع حركات التحرير الفيتنامية والجزائرية، حيث لم تتسم الحركة الفلسطينية بصراعات فئوية عنيفة يسعى فيها الخصوم إلى القضاء على بعضهم بعضا. يرى بعض النقاد أن هذا عيب خطير في الحركة، معتبرين أن الفلسطينيين (وحركة فتح على وجه الخصوص) يؤمنون بأن السلطة لا تنبع من فوهة البندقية، وإنما من التفوق في النقاش في حين يرى آخرون في ذلك فرصة لانتقاد منظمة التحرير الفلسطينية بسبب عسكرتها المفرطة من دون إرادة سياسية وثورية كافية. ففي المعارك بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية، دافعت الأسلحة الفلسطينية، بهذا المعنى، عن هوية فلسطينية مستقلة. لم تتمكن تلك الأسلحة من تحقيق تقدم ثوري، لأن وجودها في سياق الدولة الأردنية كان يعني أن أفضل ما يمكنها فعله هو تحدي احتكار الدولة للعنف، وذلك على أساس حماية المصلحة الفلسطينية المنفصلة والمؤسسة داخل الدولة.
ومع ذلك، فإن ما أغرق الفلسطينيين في معترك الأردن من ناحية، منحهم حرية ملحوظة من ناحية أخرى. لأنه لو كان الكفاح المسلح وفلسفة حرب الشعب people’s war هما كل ما لدى الحركة الفلسطينية، لكانت انتهت في الأردن. ولكنها لم تنتهِ بوضوح، بسبب رؤية الفلسطينيين أو ما أسميه “” الفكرة الفلسطينية “” والقيم التي حملتها هذه الفكرة، والتي تجاوزت الخلافات العربية المؤقتة والعنف العربي الدموي.
قدمت منظمة التحرير الفلسطينية لأول مرة فكرة دولة علمانية ديمقراطية في فلسطين تمثل التجديد الحقيقي والقوة الثورية للحركة. وروّجت هذه الفكرة للقيم الديمقراطية وتضمّنتها في منطقة لا تزال مكبّلة بأنواع عدة من الرجعية والقمع كما أنها وعدت أكثر مما قدمت من رؤية عسكرية لإشهار الأسلحة أو حتى الانتقام الغاضب من التاريخ.
وهكذا، خلال فترة ما بعد معركة الكرامة1، تناوبت الحركة الفلسطينية بين الرؤية الثورية والمناورة القومية العملية. وعلى الرغم من سلسلة الانتكاسات العسكرية التي بلغت ذروتها بطردهم من الأردن، فان منظمة التحرير الفلسطينية بدت أقوى بكثير من مجرد مجموع مكاتبها وأعضائها ومقاتليها وداعميها.
أحد الأمور التي أساء المحللون الغربيون فهمها باستمرار بشأن الحركة الفلسطينية هو أن منظمة التحرير لم تكتسب شعبيتها أو مؤيديها أو حتى المتطوعين الذين انضموا إليها بوصفها مجرد “أداة” لترويع العالم، بل لأنها كانت تجسيدًا للإجماع الفلسطيني العام الذي كان حساسًا تجاه التاريخ الفلسطيني وتطلعاته. وإذا بدت منظمة التحرير في بعض الأحيان فوضوية في إدارة أعمالها العامة، فإن ذلك كان أيضًا نتيجة عبقريتها الفريدة في تجنيد الفلسطينيين من عدة اتجاهات في آن واحد.
بالتأكيد، تأثرت الفصائل السياسية المختلفة داخل منظمة التحرير - مثل الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والمجموعات الأخرى - بالأفكار الفلسطينية (وكذلك العربية الأخرى)، وكانت لها بدورها تأثيراتها في تلك الأفكار. ومع ذلك، ظلت الشرعية لمنظمة التحرير ثابتة ومنذ عام 1974 بصورة عميقة وراسخة، فتعززت القاعدة الشعبية الداعمة لها.
مرة أخرى، الأسباب ليست قابلة للاختزال إلى عناصر بسيطة. أنا شخصيًا تأثرت بشدة بالوجود السخي للقيم والأفكار والنقاش المفتوح والمبادرات الثورية داخل منظمة التحرير الفلسطينية. وهي مكونات غير ملموسة، أعتقد أن دورها قد تجاوز - بشكل كبير وحظوة وولاء أكبر- ما قد تحققه التنظيمات الروتينية لأي حزب نضالي حتى تطور البيروقراطية الفلسطينية داخل منظمة التحرير كان مصحوبًا بهذه المكونات غير الملموسة.
تأمل أنه حتى أواخر الستينيات، كان الفلسطينيون يعيشون حياتهم بالكامل ضمن الإطار السياسي الذي تقدمه الدول العربية. وخلال عقد واحد، ظهرت مجموعة مذهلة من المنظمات الفلسطينية النشطة فهناك مثلا منظمات طلابية عدة، مجموعات نسوية، نقابات عمالية، مدارس، برامج رعاية ومساعدة المحاربين القدامى التي تتميز بمستوى مذهل من التطور والرعاية، شبكة صحية واسعة والقائمة قابلة للتمديد بشكل كبير. وهذه كلها كانت تُدار بشكل معين من لدن منظمة التحرير المتحسسة للإجماع. وما هو أكثر من ذلك، يتم إتقانه باستمرار تلبية لاحتياجات الفلسطينيين المتزايدة.
باختصار، دور منظمة التحرير الفلسطينية يتمثل في تمثيل الفلسطينيين بطريقة لا تستطيع أي منظمة أخرى القيام بها (وفي هذا الصدد، تفتح منظمة التحرير فورًا المجال لأي فلسطيني في أي مكان؛ وهذا كان إنجازها الأهم)، وأيضًا، رغم أوجه القصور في سياساتها أو قيادتها، الحفاظ على القضية الفلسطينية حية، كشيء أعظم من التنظيمات أو السياسات المؤقتة.
هناك عاملان إضافيان يجب ذكرهما، لم يحظيا بنقاش كافٍ كما يستحقان. الأول هو الإدارة الناجحة عمومًا للموارد الفلسطينية من قِبل القادة الأساسيين، وعلى رأسهم ياسر عرفات، الذي يُعد شخصية سياسية مُساء فهمها ومنتقدة بشكل كبير. لا أعتقد أنه سيكون من غير المناسب القول إن عرفات هو أول قائد فلسطيني يحقق أمرين أساسيين تمامًا:
1. الحفاظ على فهم ذكي لجميع العوامل الرئيسية التي تؤثر في الفلسطينيين في كل مكان (المشاكل الفلسطينية الداخلية، القضايا العربية والإقليمية، التيارات الدولية).
2. السيطرة المذهلة على تفاصيل الحياة الفلسطينية.
لهذا السبب شغل عرفات مكانة مركزية بمهارة كبيرة لمدة طويلة. خلال فترة الانتداب البريطاني، كانت هناك قيادة من نوع ما، ولكنها كانت تحمل طابعًا أوليغارشيا ، وربما الأكثر ضررًا على فعاليتها، أنها لم تستطع تحمل المسؤولية المركزية واسعة النطاق بشكل شبه حكومي. هذا ما حققه عرفات وفتح، من خلال الاهتمام بالتفاصيل والحساسية تجاه الكل من دون أن يبدو ذلك استبداديًا أو مزاجيًا في الوقت نفسه. العامل الثاني، وهو أصعب بكثير من الناحية التحليلية، يتمثل في المال وسأصفه بإيجاز.
يساهم الفلسطينيون في الشتات بانتظام في الصندوق القومي الفلسطيني. وكجميع الوكالات الفلسطينية، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، يخضع الصندوق للمحاسبة من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، الذي يؤدي وظيفة البرلمان أو السلطة التشريعية. يضع المجلس سياسات عامة وواسعة، وتقع مسؤولية تنفيذها على عاتق منظمة التحرير ووكالاتها المختلفة.
مع مرور الوقت، نمت الميزانية الفلسطينية إلى حد يسمح بتمويل الخدمات والإمدادات والتدريب والتسليح لما يقارب المليون شخص. بالإضافة إلى الأموال التي يقدمها الفلسطينيون طوعًا، هناك مبالغ سنوية متذبذبة تُجمع من عدة دول عربية، بما فيها السعودية والكويت والدول الأخرى الغنية بالنفط. علاوة على ذلك، مارست سوريا ومصر نفوذًا بفضل مساهماتهما التي اعتمدت على مكانتهما السياسية أكثر منها على قيمتها المادية.
النقطة المهمة في هذا السياق هي أن هذا النمو- مثل تطور التعليم الفلسطيني- يدحض الوضع السياسي والجغرافي غير المواتي للسكان لكن التحليل الكلاسيكي لحركات شعوب العالم الثالث والذي يعتمد على استمرارية التهميش والفقر كعامل أساس، ينهار هنا. إذ لا يزال جزء كبير من السكان الفلسطينيين يعاني من الفقر المدقع باستثناء أقلية كبيرة منهم متعلمة ولديها موارد لافتة للنظر. مثل هذا التناقض يبرز مشاكل معينة بحدة. إحداها الصراع بين الأيديولوجيات الاجتماعية والمؤسسات التي بطبيعتها تميل لأن تكون محافظة أكثر منها تقدمية. مشكلة أخرى هي احتمال تصادم الأعراف السياسية للدول العربية بشكل صريح مع التيارات التقدمية التي تدفع التطور الفلسطيني. أخيرًا، هناك الاحتمال الخطير للطبقية البرجوازية الفلسطينية. ويمكن بالطبع الجدال بأن هذا الاحتمال قد يؤدي بشكل صحي إلى تفاقم ثم حدوث صراع طبقي واضح بين الفلسطينيين؛ وإذا ما أدى هذا الصراع إلى انتصار الطبقة العاملة، فإن ذلك سيكون في صالح الثورة.
لكن مثل هذا الطرح يتجنب المسألة الجوهرية لما يعنيه وجود صراع داخلي بين الفلسطينيين في المنفى. وبقدر ما يسعى الفلسطينيون إلى تقرير المصير الوطني، فإن من المرجح ان أي شيء يصرف هذا السعي سيكون ضارًا أكثر منه نافعًا. ومن ناحية أخرى، فإن النسخة المحافظة من السعي الفلسطيني هي تاريخيًا وأخلاقيًا غير مقبولة: فكرة أن بإمكاننا العودة جميعًا إلى عام 1948، إلى ممتلكاتنا إلى دولة عربية يُفترض أن يحكمها طغاة عرب تقليديون. هذا الطموح يتناقض مع الرؤية الفلسطينية التي جذبت العديد من ضحايا الظلم في كل مكان.
لكن الحقيقة غير المريحة تكمن في أن تراكم الممتلكات والنجاح في المنفى يغذي رؤية رجعية للمستقبل. لذا تكمن المشكلة في الاعتراف بفائدة (وفي هذه الحالة، حتمية) مرحلة من الثروة العربية غير المسبوقة دون الوقوع في فخ الفساد المحتمل بشدة لمثل هذه الثروة.
ومع ذلك، إلى حد كبير، تم التصدي حتى الآن لأي سبب متطرف يؤدي إلى تفرقة المنفيين، ويستقطب المجتمع ويشل حركته من خلال الروابط الداخلية التي تجمع الفلسطينيين معًا. لا ينبغي أبدًا التقليل من تأثير المنفى حتى في أكثر البرجوازيين نجاحًا. علاوة على ذلك، فإن التاريخ الملموس لما أعقب عام 1967 قد نسج المجتمع الفلسطيني معًا بشكل فعال، روحياً في الأقل كما كان مترابطًا منذ أوائل القرن التاسع عشر.
بعد الهزيمة الكارثية في عام 1967، أصبح من الواضح بشكل لا مفر منه أن الدول العربية لا يمكنها حل نزاعها مع إسرائيل عسكريًا. أصبح الحل السياسي هو النظام الجديد للمرحلة، وكان جزءًا من ذلك هو عودة النفوذ الأمريكي بشكل كبير في المنطقة.
فلقد قام جمال عبد الناصر نفسه قبل وفاته عام 1970 بالتحول الأيديولوجي من الوحدة العربية والنضال التحرري المناهض للإمبريالية إلى التوافق السياسي مع الولايات المتحدة، واحترام سيادة كل دولة في المنطقة، وتحقيق أهداف سياسية محدودة، وكلها تشير إلى قبول -بعد أن كان هناك رفض- لإسرائيل.
شملت آثار هذا التحول على الفلسطينيين أزمات الأردن ولبنان في 1970-1971 و1975-1976 على التوالي. لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت، كما ذكرت أعلاه، أن هاتين الأزمتين وما ترتب عليهما من خسائر فادحة في الأرواح كانتا حتميتين، مثلما كان من الحتمي أن نتيجتهما المتناقضة كانت زيادة في السلطة الوطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية. قرار مؤتمر الرباط عام 1974 بتسمية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني كان نتيجة للصدام الأردني-الفلسطيني في 1970 و1971. إحدى نتائج الصراع اللبناني كانت تقريبًا عبارة عن إجماع كلي بين جميع شرائح المجتمع الفلسطيني -بما في ذلك أولئك الموجودون في الأراضي المحتلة وإسرائيل- حول منظمة التحرير الفلسطينية.
وبطريقة متوقعة، تعرّض الفلسطينيون لضغوط بسبب وجودهم خارج حدود الدول في الأردن ولبنان – رغم اختلاف الظروف الخاصة بكل حالة – وتم التأكيد على تطلعاتهم الوطنية المحدودة بطرق مختلفة. مرة أخرى، نرى ضغطًا على الحاجة إلى تعريف عملي للهوية الفلسطينية، بالإضافة إلى استجابة فلسطينية لهذا الضغط وللحقائق السياسية المتغيرة بسرعة.
بين الأزمتين الكبيرتين في الأردن ولبنان، تدخلت حرب 1973 لتكثيف فكرة التوافق السياسي، حتى بعد الفشل الذريع لخطة روجرز ومهمة يارينغ في العامين السابقين.
ما عرضه الرئيس السادات في عام 1973، هو ذاته ما عرضه وبشكل أقل وضوحًا السوريون والأردنيون في عام 1971. ومرة أخرى فان ما بدا أن السادات عرضه عندما زار القدس في أواخر عام 1977: السلام مع إسرائيل ودولة فلسطينية مشروطة بانسحاب إسرائيلي كامل وصريح من الأراضي المحتلة. حرك إلى حد كبير، الموقف الفلسطيني بالتوازي مع هذا العرض.
بعد اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974، وبشكل أكثر تأكيدًا بعد اجتماع عام 1977، حسم الفلسطينيون أمرهم نحو إقامة دولة، على الرغم من أن أقلية ذات جاذبية عاطفية كبيرة لا تزال تدعو إلى التحرير الكامل.
ما أقنع منظمة التحرير الفلسطينية في النهاية برأيي كان وجود قاعدة داعمة جديدة وقوية لخطها الوطني المركزي يمثلها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين أظهروا، في الانتخابات البلدية عام 1976 وبعد ما يقرب من عقد من الحكم الإسرائيلي القاسي، دعمًا قويًا لمنظمة التحرير كممثل لهم. بالإضافة إلى ذلك، رحب الفلسطينيون داخل إسرائيل بمنظمة التحرير بالحماس نفسه تقريبًا. وكان يوم الأرض في 30 مارس 1976 تعبيرًا عن نضالهم المستمر. منذ ذلك الحين، كانت هناك العشرات من المظاهر الفلسطينية والتصريحات والتظاهرات التي أظهرت الدعم لمنظمة التحرير الفلسطينية. ولم يحدث من قبل أن وقفت منظمة سياسية فلسطينية واحدة بهذه القوة والمركزية مع شعبها كما تفعل منظمة التحرير الآن.)3
______________
1 - جرت معركة الكرامة في محيط بلدة الكرامة الأردنية في غور الأردن شمالي البحر الميت في 21 آذار 1968 ودارت بين الاحتلال الصهيوني ومجموعة مشتركة من المقاتلين الفلسطينيين وقوات الجيش الأردني.
2 - تعني الاوليغارشية او الاوليغاركية حكم الاقلية اي حصر السلطة السياسية بيد فئة صغيرة من المجتمع تتمتع بنفوذ مادي ومعنوي.
3- The question of Palestine a compelling call for identity and justice, Edward W. Said, published by Times books , first edition, New York, USA ,1980, p162-169.