عادل الجبوري
تؤكد الكثير من التجارب البعيدة والقريبة، أن انهيار أي نظام استبدادي دكتاتوري لا يمكن أن يعقبه استقرار سياسي، وهدوء أمني، وتعايش مجتمعي، وانتقال وتداول سلمي للسلطة، بقدر ما يخلف من فوضى واضطراب وعنف وغياب وتعطيل للقانون والنظام. ولعل هذا ما سمعنا وقرأنا عنه، أو شهدناه وشاهدناه، أو عشناه وعايشناه، خلال حقب ومراحل زمنية مختلفة، في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، وجنوب شرق آسيا، وأفريقيا، والعالم العربي.
وسوريا اليوم، ليست استثناء من هذه القاعدة، بل هي تعد مثالاً ومصداقاً واضحاً وجلياً لها، فحزب البعث الذي حكم هذا البلد منذ عام 1963 وحتى أواخر عام 2024، أي لمدة ستة عقود من الزمن، أسس وكرس ورسخ مناهج الاستبداد والتسلط والدكتاتورية بصورة فاضحة، بصرف النظر عن طبيعة تحالفاته واصطفافاته ومواقفه المرتبطة بسياساته وعلاقاته الخارجية.
ولأن مناهج الاستبداد والتسلط والدكتاتورية تلك، لم تكن صحيحة ولا رصينة، ولم تؤسس لدولة مدنية حقيقية بقدر ما أسست لنظام حزبي عائلي مصلحي ضيق الأفق. فقد كان من الطبيعي جداً أن تنتهي إلى انهيار وتفكك وسقوط دراماتيكي سريع، رغم أن مقدماته لم تكن غائبة أو مخفية تماماً عن دوائر الرصد المراقبة والتقييم.
ورغم أن هناك أوجه اختلاف غير قليلة بين تجربة-أو حدث- انهيار نظام حزب البعث في العراق عام 2003، وانهيار نظام حزب البعث في سوريا عام 2024، إلا أن أوجه التشابه هي الأخرى ليست قليلة ولا عابرة. وبالتالي فإنه إذا كانت المقدمات والبدايات متشابهة- أو ربما متماثلة- فليس غريباً أن تكون النتائج والنهايات متشابهة ومتماثلة أيضاً.
ولا شك أن مجمل المؤشرات الأولية تذهب إلى أن سوريا تحتاج لوقت طويل حتى تستعيد عافيتها، وتنعم بالأمن والهدوء والاستقرار، الذي يتيح لأبنائها ممارسة حياتهم بصورة طبيعية، بعيداً عن أجواء الصراعات الداخلية، واسقاطات الأجندات الخارجية، وتصفية حسابات الماضي، والتنافس والتدافع على مغانم الحاضر.
يخطئ من يتصور أن المشكلة اليوم تتمثل وتنحصر بالسلطة الجديدة الحاكمة فقط، ويتغاضى عن واقع شائك ومعقد، تتداخل وتتشابك فيه كل الخيوط والخطوط، لترسم لوحة مشوشة وضبابية في ألوانها وملامحها ومعالمها.
يمكن أن تكون السلطة الجديدة الحاكمة جزءاً من الحل، ويمكن في الوقت ذاته، أن تكون جزءاً من المشكلة، وهذا يتوقف على جملة عوامل، لعل من بينها، طبيعة توجهات ونوايا أركان وأصحاب الحكم، وطريقة أدائهم، ومدى استعدادهم لاستيعاب مظاهر التنوع السياسي والديني والمذهبي والثقافي والاجتماعي، وبناء علاقات متوازنة وعقلانية مع مختلف أطراف المحيط الإقليمي والفضاء الدولي، بعيداً عن عقد الماضي، ونزعات الثأر والانتقام، والوقوع بفخ إرضاء هذا الطرف على حساب الطرف الآخر.
من الطبيعي جداً أن المهمة صعبة للغاية، حتى وإن كانت النوايا سليمة والإرادات صادقة. فالطريقة التي سقط بها نظام بشار الأسد، شرعت الأبواب على مصاريعها لكل الخيارات والاحتمالات والسيناريوهات السيئة والسلبية القاتمة.
فالمساحة الواسعة للمعارضة والرفض للنظام السابق، بعناوين ومسميات وأيديولوجيات مختلفة، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتقبل فكرة أو حقيقة استحواذ طرف معين على السلطة. وهذا ما يعني أن فرص الصدام والصراع أكبر بكثير من فرص الوفاق والتفاهم والحوار، ومؤشرات وملامح ذلك، راحت تطفو على السطح مبكراً، بصورة مواجهات مسلحة، وانتقادات سياسية وإعلامية حادة، وقرارات اقصائية، وسلوكيات انتقامية ثأرية. وهذه كلها بمثابة قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.
إلى جانب ذلك، وهو بلا شك غير منفصل عما أشرنا إليه آنفاً، إن لم يكن مرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً، فإن سوريا باتت بعد أيام أو أسابيع قلائل من سقوط النظام السابق، مقسمة فعلياً إلى مناطق نفوذ تركية وأميركية وإسرائيلية، في ظل تقاطع وتباين واضح في الأهداف والتوجهات، ناهيك عن أن هناك أطرافاً إقليمية ودولية دعمت بقوة السلطة الحاكمة الجديدة، بينما أبدت أطراف إقليمية ودولية أخرى قدراً كبيراً من التحفظ والتوجس، رغم أنها حاولت أن تظهر دعمها وتأييدها للسلطة الجديدة، بيد أن واقع الحال يشير إلى وجود هواجس ومخاوف جدية من سيطرة ما يطلق عليه بـ"الإسلام السياسي" على مقاليد الأمور في سوريا، كما حصل في بلدان أخرى سابقاً.
وقد يفضي تقاطع الإرادات والأجندات والمصالح الخارجية، إلى اضطرابات أمنية خطيرة، واختلالات اجتماعية كبيرة، يمكن أن تتفاقم وتستفحل مع تزايد شعور بعض المكونات-لا سيما الأقليات- بالاضطهاد والإقصاء والتهميش والحرمان. ولا شك أن الاضطرابات الأمنية والاختلالات المجتمعية، والتقاطعات السياسية، من شأنها أن توفر أرضيات ومناخات مناسبة إلى حد كبير للانقسام والتشرذم، وضعف سلطة المركز، وهيمنة وسطوة العناوين الحزبية والعشائرية والقبلية المختلفة هنا وهناك، خصوصاً أن الدعم والإسناد الخارجي-سياسياً ومالياً وعسكرياً وإعلامياً- سيكون له أثر غير قليل في صياغة معادلات وموازين القوة في الكواليس والميادين على حد سواء.
وإذا كان الطريق يبدو طويلاً أمام تحول سوريا إلى دولة مدنية ديمقراطية، يسودها القانون، وتحتكم إلى الدستور، وتصان فيها الحقوق والحريات، وتتشارك كل المكونات في إدارة شؤونها، فإن المقدمات الصحيحة، والمسارات السليمة، والبناءات الرصينة، من شأنها أن تختصر ذلك الطريق الطويل، وتختزل العديد من المحطات، وتتغلب على كمّ غير قليل من المصاعب والتحديات، وتتجاوز بعضاً مما حصل مع تجارب أخرى سابقة في العراق وتونس وليبيا وسواها من الدول التي انعتقت من براثن الطغيان والاستبداد لتقع في شراك العنف والفوضى والصراع لفترة من الزمن.
وحتى الآن فإن التحديات تبدو كبيرة والفرص ضئيلة في بلد لم يتلمس طريقه بعد نحو فضاءات الحكم الرشيد.