من المفارقات الغريبة حقاً, ان اكثر الاشياء وضوحاً امامناً هي الاصعب في الفهم, وتزداد الصعوبة كلما حاولنا تأطيرها في تعريف علمي, والامثلة على ذلك لا تحصى ولا تعد, من ذلك مفردة (الثقافة) التي لا تدانيها مفردة اخرى في التداول والشيوع خاصة في العصر الحديث, ومع ذلك فإنها تمثل اشكالية كبيرة كلما اردنا حصرها في مفهوم محدد وثابت.. ومازلنا في حيرة او في تردد عندما نحاول توصيف (حاملها) أي (من هو المثقف) ونثير حوله العديد من الردود والاحتمالات, هل هو من يقرأ ويكتب ام صاحب الشهادة العليا؟ هل هو من لا يغادر المكتبة المركزية ام الذي لا يفوته معرض تشكيلي ولا فيلم سينمائي ولا عرض مسرحي ولا اصدار جديد.. وهل الرسامون والادباء والموسيقيون والفنانون و..و.. مثقفون بالضرورة, مئات الاسئلة الاخرى التي تنعكس بدورها على سؤالنا عن (ماهي الثقافة؟!).
كثير من الوقائع الحياتية تقول ان رجلاً أُمياً قادماً من مضايف الريف يمكن ان يكون قادراً على مواجهة اقسى المواقف واستيعاب اصعب المشكلات.. ويخرج منها بأفضل الحلول, في حين يعجز عن ذلك استاذ جامعي مرموق او شاعر كبير او فيلسوف عظيم او عالم رياضيات او فلك, ذلك لان الاول مزود بثقافة حياتية شاملة ورثها عن بيئته ومخالطاته وتجاربه وملامسته للأشياء بحواسه, اما الثاني فلا زاد عنه ولا زوادة سفر غير الكتب والنظريات والبحوث والهدوء والغرف المغلقة, فهو لم يعرف يوماً الطريق الى السوق او المقهى او الشارع او
الناس..
هذه المقارنة البسيطة تكتسب قوتها من بساطتها الواقعية التي دفعت غير واحد من المفكرين المحدثين الى فهم الثقافة من زاوية جديدة, والى القول بأن الثقافة (سلوك) بأوسع دلالات هذه الكلمة ومعانيها, ويراد بها طبيعة النظرة الى الحياة والمجتمع, وكيفية التعاطي مع المفردات اليومية, صغيرها وكبيرها, على ان أغلب الآراء المعاصرة ترى في الثقافة نظاماً شاملاً للفرد والمجتمع والدولة، وتندرج تحت هذا الرأي جملة من العناصر المتلازمة في مقدمتها الموروث الحضاري وهوية النظام السياسي والتربية الاسرية والعادات والتقاليد والمناهج الدراسية والمحيط الاجتماعي..الخ
لعل هذا التباين في تحديد معنى نهائي للثقافة كان وراء ذلك الكم الكبير من التقسيمات والتوصيفات والمسميات التي لحقت بها، حتى بتنا نسمع (ثقافة اجنبية وثقافة محلية)، وثقافة عامة واخرى خاصة الى غير ذلك من مبتكرات العصر كثقافة الاستقالة.. التسامح.. القتل ... أو ثقافة استيعاب الاخرة وبات من الطبيعي الحديث عن ثقافة النظام، أي نظام، من ذلك على سبيل المثال النظام السياسي في العراق، فهذا الطرف يقول انه قائم على ثقافة المنصب او الكرسي، وذاك الطرف -وهو الاكثر- يرى انه قائم على ثقافة المغانم (المصلحة) .. وأنا لست مع الطرفين لأسباب لا تحتاج الى
ايضاح!!