لبنان في ظل الرئيس الجديد
جواد علي كسار
"نحن في أزمة حكم"، هذا تلخيص مكثف أدلى به الرئيس اللبناني الجديد جوزيف عون لواقع بلده لبنان؛ أزمة تمتد إلى قلب السياسة والاقتصاد، والتخطيط وشؤون المجتمع؛ أزمة اتجهت إلى الأمن والحدود وجعلت الستراتيجية العسكرية تائهة بين مبدأي الدفاع والهجوم؛ أزمة عميقة استوطنت البلد رغم تعدّديته الطائفية، فخلقت توازنات سلبية معطلة للسياسات؛
أزمة ضربت نسق الإدارة بين المركزية وتسيّب الأطراف، أفضت إلى تجميد المحاسبة والرقابة واستشراء الفساد، وتالياً إلى تعطيل الإنماء وشيوع الفقر والتصحّر البشري والبيئي؛ أزمة لم تستثنِ علاقة لبنان مع الإقليم والعالم، دائماً على حدّ وصف الرئيس الجديد؛ فما هو الحلّ؟ وهل وضع لبنان خطاه على الطريق الطويل، عبر نجاح قواه السياسية في انتخاب الرئيس الرابع عشر؟.
لبنان الكبير
ربما لم ينتبه كثيرون إلى المغزى العميق لإشارة جوزيف عون في الفقرة الأولى من خطاب القسم، إلى مصطلح "لبنان الكبير"، وقد قال نصاً: "أصبحتُ الرئيس الأول بعد المئوية الأولى لقيام دولة لبنان الكبير، في وسط زلزال شرق أوسطي تصدّعت فيه تحالفات وسقطت أنظمة، وقد تتغيّر حدود". (خطاب القسم، الخميس 9 كانون الثاني الحالي).
"لبنان الكبير" هو الكيان السياسي الأول الذي أُعلن عن قيامه بعد الحرب العالمية الأولى عام 1920م، ليمتدّ جغرافياً: "من النهر الكبير إلى أبواب فلسطين، ومن البحر المتوسط إلى قمم لبنان الشرقية"، بحسب الجنرال الفرنسي غورو، وأصبح له دستور صدر في أيار 1926م، وكان رئيسه الأول شارل دباس (تُنظر التفاصيل: تأريخ لبنان السياسي الحديث، د. ملحم قربان، الجزء الأول).
لم تكن إشارة الرئيس جوزيف عون إلى "لبنان الكبير"، محض عبارة لتكريم الذكرى بمناسبة مرور مئة سنة على إنشاء هذا الكيان السياسي، بل المغزى هو مواجهة نزعة في الفكر السياسي العربي والإقليمي (خاصةً على مستوى تركيا وإيران)، تقول بأن دول المنطقة مخترعة، فاقدة لأصالة الوجود السياسي التأريخي، في عملية خلط عامدة ومضللة، تتستّر على طموحات وأطماع في هذه البلدان. الأمر لا يقتصر على لبنان وحده، بل يمتدّ إلى أجزاء من بلدان أُخرى، بل أحياناً بلدان بأكملها، كما نسمع في فلتات لسان السياسيين وأحياناً الستراتيجيين في عواصم الإقليم. ما أراد الرئيس الجديد تثبيته بهذه الإشارة الذكية، أن لدولة لبنان الحالية جذورها الممتدّة ككيان سياسي بجغرافية محدّدة، تصل إلى مئة عام، هي بالضبط عمر الأزمنة الحديثة للدول في هذه البقعة من العالم أو أغلبها. ليس هذا وحده، بل أراد أن يذكّر أيضاً بأن لتلك الدولة وجودها الواقعي ولو في ظل الانتداب، عبر رئيس ودستور وحكومة ومجلس نيابي، وأعراف سياسية ثابتة منذ تلك البواكير الأولى، تقضي بتقسيم المواقع السياسية العليا بين المسيحيين والمسلمين، عبر إقامة توازن بين الوجه العربي للبنان، والميول صوب الغرب.
الجمهورية الثانية
يُلحق بالإشارة أعلاه ويعمّق مدلولاتها المعاصرة أكثر، أن دولة "لبنان الكبير" تلك دامت زمنياً بكيانها السياسي ودستورها وتقسيماتها التحاصصية منذ عام 1920م إلى 1943م، وبقيت ذكرى تأسيسها يوماً وطنياً للبنان مدّة (23) سنة، إلى أن قامت الجمهورية الثانية مع ميثاق عام 1943م، ليكون بشارة الخوري أول رئيس لها (في الرئاسة: 1943 - 1952م) وقد انتمت إلى الأمم المتحدة في شباط 1945م، وإلى الجامعة العربية في آذار 1945م.
الدلالة العميقة لإشارة الرئيس الجديد تستحضر هذه المؤشرات جميعاً، وتواجه بقوّة منزع "الاختراع" الذي يحاول التشكيك ليس فقط بأصالة هذه الدول، بل أحياناً بوجود البلدان نفسها، في مسعىً تُغذيه نزعات تأريخية في السيطرة على هذه البلدان، أو فرض الرعاية والتبعية عليها، بحجة أنها كانت في يومٍ من التأريخ تابعةً لهذا البلد أو ذاك.
لقد واجه لبنان السياسي هذا التحدّي بعمق، عبر عروبيات سوريا الطبيعية والتأريخية، لاسيّما ضمن النزعة التنظيرية لأنصار "الحزب القومي السوري الاجتماعي" كمثال؛ هذه النزعة التي ظلت آثارها العملية التدخلية ظاهرة للعيان حتى انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005م، ولم تزل رواسبها باقية حتى الآن، وهو ما دعا الرئيس الجديد لتخصيص فقرة كاملة من خطابه لها، قال فيها: "لدينا فرصة تأريخية لبدء حوار جدّي وندّي مع الدولة السورية بهدف معالجة كافة المسائل العالقة بيننا"، وفي الطليعة منها - بحسب جوزيف عون - احترام السيادة والاستقلال اللبنانيين، وضبط الحدود وترسيمها، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، بالإضافة إلى الملفات التفصيلية التي أشار الخطاب إلى عنواناتها. يبدو أن لبنان لا يرغب بتضييع الفرص المؤاتية فضلاً عن هدرها، فبعد ساعات من خطاب الرئيس عون، تسارعت الأنباء وهي تنقل خبر زيارة رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي إلى دمشق، ولقاء القيادات الجديدة هناك.
جدل الخارج والداخل
ليس سراً الكلام عن تدخلات الخارج في الداخل اللبناني وتأثيرها حتى في انتخاب الرئيس، لا فرق بين أن يكون هذا الخارج إقليمياً أو دولياً. بيدَ أن ذلك لا يسوّغ بتاتاً ذرائع أنصار "الدولة المخترعة" لأن تدخلات الخارج تؤشر على وجود خلل في مكان آخر. عندما تفتقد العملية السياسية في أي بلد كان كينونتها الداخلية، وتغيب عنها الصيرورة التي تعبّر عن البلد كما هو، من دون تزييف؛ يضعف الأمر السياسي في ذلك البلد، ويكون عُرضة لتأثيرات الخارج.
للداخل اللبناني ثوابت على الأقلّ خلال المئة سنة المنصرمة، في طليعتها التعددية الطائفية (18 طائفة معترفا بها) وتوزيع المناصب على أسس التقسيمات الطائفية لمنع الاستئثار، ومزاولة السياسة على أساس الفن السياسي الميكافيلي ببراعة فائقة كما يسجّل ذلك المؤرخ اللبناني فيليب حتي، وذلك كأسلوب حمائي لجأ إليه الساسة في لبنان، لدفع توترات الاستقطاب العقدي بين أيديولوجية المارونية السياسية والإسلامية العروبية.
ما حصل على مسار العقود العشرة الأخيرة وبالأخص الخمسة المتأخرة منها، أن لبنان كان يتعرّض إلى الاهتزاز، وتضطرب فيه السياسة وما يتبعها من ضروب الخلل الاقتصادي والأمني والاجتماعي؛ في كلّ مرّة تتعرّض فيه ثوابته الخاصة به، لما يخلّ بتوازنها، ما يؤدّي في المحصلة الأخيرة إلى تراجع الأمر السياسي المتوازن، وصعود الصراع على أساس عقدي في الداخل، تغذيه تدخلات الإقليم والعواصم العالمية المؤثرة من الخارج، فيزداد الاستقطاب على حساب لبنان، وتتسع الخسارات.
هذه هي حقيقة الأمر كما شهدها لبنان في كلّ مرّة انكسر فيها التوازن الداخلي لميثاق عام 1943م ودستور البلد، ما يفسح المجال لتدخلات الخارج، كما حصل في وقتٍ مبكر مع ضغوطات أنصار أيديولوجية سوريا الطبيعية أو التاريخية، ولاسيّما "الحزب السوري القومي الاجتماعي" الذي رهن لبنان إلى سوريا، ولم يتخلص لبنان من تأثيره المباشر إلا بإعدام رئيسه، السياسي والمثقف اللبناني أنطوان سعادة في تموز 1949م، ليتحوّل الأمر بعد ذلك إلى تأجيج الاستقطاب الداخلي بين المارونيين والمسلمين، أو بشكلٍ أدق بين المارونية السياسية والعروبية السياسية، مع إقحام الناصرية أنفها في البلد لاسيّما بعد الوحدة بين سوريا ومصر.
على سبيل المثال، بقيت سوريا تؤجّج الداخل اللبناني حتى بعد أن انطفأ المدّ الناصري، وترك الوجود الفلسطيني تبعاته الخطيرة على الكيان السياسي اللبناني، وقد جاءت تدخلات الإقليم متجاوبة مع تأثيرات العواصم الثلاث الكبرى؛ باريس ولندن وواشنطن، واختلاف ميزان القوى في ما بينها، مع الأخذ بنظر الاعتبار مواقف تل أبيب وعبثها في لبنان، قبل أن يتفاقم الأمر ونصل إلى مرحلة حزب الله ومن ورائه إيران، وما قاد إليه هذه المرّة من استقطابات عربية لم تقتصر على سوريا وحدها، بل امتدّت إلى دول الخليج ولاسيّما السعودية.
هذه العناصر مجتمعة ساهمت كثيراً في ضرب كينونة لبنان وصيرورته الذاتية، واستبدلت معادلة الداخل وحده، بمعادلة الخارج – الداخل، بإعادة صف قوى الداخل ليس من خلال أوزانها الذاتية الحقيقية، بل بالأحجام المضافة إليها عبر الاستقواء بالخارج. وهذا ما أشار إليه الرئيس الجديد، بقوله نصاً: "آن الأوان لنراهن على لبنان في استثمارنا لعلاقاتنا الخارجية، لا أن نراهن على الخارج في الاستقواء على بعضنا البعض"، (جوزيف عون، خطاب القسم).
الميثاق والوثيقة والدستور
ليست علاقة الخارج، وتأثيره في الداخل اللبناني، هي الجدلية الوحيدة في هذا البلد، بل إلى جوارها جدليات أُخر من بينها المرجعية المنظمة للدولة ونظامها السياسي وسلطتها، إذ تضعنا هذه الجدلية أمام حصيلة من مصطلحات ثلاثة، تكوّن على صعيد واحد المرجعية الناظمة؛ هذه المصطلحات هي: الميثاق الوطني، الدستور، وثيقة الطائف أو وثيقة الوفاق الوطني. لنعد قليلاً إلى الوراء، لخطاب الرئيس الجديد، وهو يقول نصاً: "عهدي إلى اللبنانيين... أن أكون الخادم الأول في الحفاظ على الميثاق، ووثيقة الوفاق الوطني، والتزامي بتطبيقها".
حقيقة الحال أن الميثاق الوطني لعام 1943م هو الأساس الأكثر فاعلية وحضوراً في الحياة السياسية اللبنانية. ومع ذلك فهو ليس وثيقة مكتوبة تعكس صيغا ثابتة، بل أعراف تواضع عليها اللبنانيون من مسيحيين ومسلمين وبقية الطوائف، توزّعت بمقتضاها رئاسة الجمهورية إلى المسيحيين المارونيين، ورئاسة الحكومة إلى المسلمين السنة، ورئاسة البرلمان إلى المسلمين الشيعة، مع حرص على تمثيل الطوائف في مراتب المسؤولية المهمّة (يُنظر في التفاصيل: سياسة الحكم في لبنان، د. حمدي الطاهري، ص 125 فما بعد).
أما الدستور وتعديلاته، فهو الوثيقة المدوّنة، تليه بالأهمية وثيقة الطائف لعام 1989م، التي انتهت بموجبها الحرب الأهلية، وأضافت تعديلات يرتبط أهمها بإعادة توزيع الحصص، وبالصلاحيات والمسؤوليات. فوفقاً لوثيقة الطائف قُلل من صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الوزراء، وتمّت المساواة بين المسيحيين والمسلمين في التمثيل النيابي بواقع (50 %) لكلٍ منهما، بعد أن كانت النسبة سابقاً (6) مسيحيين إلى (5) مسلمين. كما تمّ التركيز أكثر على التوازن في حصص الطوائف ضمن المواقع والمسؤوليات لاسيّما العليا منها.
كان رئيس الجمهورية المنتخب برلمانياً في ما مضى، يذكر الدستور والميثاق ويؤكّد أهميتهما المرجعية معاً في خطابه الأول إلى اللبنانيين، بينما رأينا أن الرئيس الجديد جوزيف عون ذكر الميثاق الوطني ووثيقة الطائف، ولم يذكر الدستور، ما يعطينا قرينة مهمّة على أهمية هذين العنصرين، في المرجعية الثلاثية.
الخطاب وممكنات التنفيذ
بالإضافة إلى أزمة الحكم ووجوهها المتنوّعة؛ تحدّث جوزيف عون عن مافيات المخدرات والتهريب وتبييض الأموال، كما عن إعادة هيبة الدولة في احتكار سلطة السلاح وممارسة الدفاع بحيث تكون هي الوحيدة المسؤولة عن الدفاع وإزالة الاحتلال الصهيوني، من دون أن ينسى تأكيد هوية لبنان وانتمائه العربي، وأن لا يصدّر لبنان للعالم العربي سوى أفضل ما عنده، بحسب قوله.
كثيرون رفعوا الخطاب إلى درجة التميّز خلال العقدين أو الثلاثة الماضية، خاصة أنه اتكأ إلى أدبياته الخاصة، ولم يستعمل أي مفردة مما كان شائعاً في الأدب السياسي اللبناني الرسمي إبّان المدّة المذكورة. والأهمّ من ذلك أنه انطلق من واقع ما يمليه موقع الرئيس كراعٍ للجميع، من دون ممارسة للمماحكة والمناكفة وما شابه، وقد قال نصاً: "إذا انكسر أحدنا انكسرنا جميعاً". السؤال الرئيسي الذي يفوق بأهميته أي سؤال آخر، هو: ما هي الممكنات المتاحة فعلاً لتنفيذ هذه المقاربات وما جاء من وعود في الخطاب الرئاسي؟.
الحقيقة أن التباسات الحالة اللبنانية وتجاذباتها بين الداخل والخارج، وبين الإقليم والعالم، باتت تتيح الآن فرصة أنموذجية للتقدّم على طريق تحسين الأوضاع. لكن الشيء الأكيد أن الداخل اللبناني هو حامل هذه الفرصة، فعناصر الخارج في الإقليم والعالم مهما كانت إيجابية ومثالية، فهي لا تزيد على كونها فرصة وحسب، تحتاج إلى فاعل داخلي يوظفها ويستفيد منها، ويوفر لها الممكنات، وكلاهما مؤاتٍ في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ لبنان.
فبعد التحوّلات العنيفة التي عصفت في لبنان والإقليم، بدا العالم أكثر استعداداً للتعاطي الإيجابي مع لبنان، بعد أن اختفت موانع الصدود أو كثير منها. كما يبدو العرب اليوم ولاسيّما السعودية، أقلّ تحفظاً إزاء الانفتاح على دور سياسي واقتصادي وإعماري لصالح لبنان، (يُنظر بأهمية إلى اجتماع الـ 18 دولة في الرياض الأحد الماضي). الوضع مع سوريا وفي سوريا هو فرصة مثالية للبنانيين منذ أكثر من خمسين عاماً، بعد سقوط حُقبة آل الأسد.
تبقى معادلات الداخل وهي الأكثر تعقيداً، لكن يبدو أن الدرس الذي خرج منه الجميع، هو أن أي ضرب لمعادلة التوازن التي يقوم عليها البلد، لا يؤدّي فقط إلى "تشادّ القوميات" وتجاذب الطوائف، على حدّ تعبير الكاتب اللبناني ملحم قربان، بل يقود أيضاً إلى تحويل الداخل اللبناني إلى جيوب متصارعة، تعمل لمراكز النفوذ الإقليمية والدولية، وهذا ما أدّى كما رأينا ذلك فعلاً، إلى المعادلة الصفرية وتعطيل البلد وعزله.
لذلك فالوضع على قدر تعقيده والتباسه يتيح فرصة مؤاتية للبنان من الصعب أن تكرّر لو ضيّعها اللبنانيون، ليس فقط للتصحيح، بل أيضاً لوضع البلد على المسار الصحيح، والبدء في مشاق الإنماء السياسي والعمران وإعادة البناء، وربما اقتناص الأوان للعودة إلى الكينونة الوجودية الطبيعية للبلد، وإلى صيرورته الذاتية، في إمكانية أصبحت متاحة الآن لتصحيح ما يطلق عليها بعض الزملاء؛ عيوب التأسيس، وإنشاء مرجعية جديدة.
كان أروع ما وقر في سمعي وذهني، هذه الأيام وأنا أتابع الشأن اللبناني قراءةً ومراجعات، مقولة أطلقها أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية د. وليد صافي، من أن "لبنان تحوّل إبّان العقود الأخيرة إلى منصة صواريخ، والبلدان بما فيها لبنان ليست منصات صواريخ، بل ينبغي أن تكون كينونة للإنسان ومركزاً للتقدّم والعمران؛ وهذا ما لا يختص بلبنان وحده، بل يشمل البلدان جميعاً".