فرانك فانون
ترجمة: أنيس الصفار
على مدى السنوات كانت الصين تشن حرباً هادئة على الولايات المتحدة، حرب ليست الصواريخ سلاحها ولا الرصاص بل المعادن والمصافي. وقد توانت واشنطن عن الإقرار بهذه الحقيقة كي تتمكن أميركا من اعتماد الاستعدادات الحربية الضرورية لتحقيق النصر.
خلال دورته الرئاسية الأولى دق الرئيس "دونالد ترامب" ناقوس الخطر: "أميركا لا يمكنها أن تبقى معتمدة على استيراد المعادن الحرجة من خصوم ومنافسين أجانب". وفي الكونغرس قاد الهجوم ضد هيمنة بكين على المعادن الحرجة السيناتور "مارك روبيو" وعضو الكونغرس "مايك والتز"، مرشحا الرئيس المنتخب لتولي منصبي وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي. فقد أدرك الرجلان أن السيطرة الصينية، الموجهة من قبل الدولة، على سلسلة تجهيز الصين من المعادن الحرجة ليست مجرد منافسة ودية بل هجوم ستراتيجي على القاعدة الصناعية لأميركا.
منظوران مختلفان
الحزب الشيوعي الصيني يضمر العداء للولايات المتحدة ويتطلع لإزاحتها عن موقعها كقوة عالمية لا غنى عنها. تؤكد تقارير الاستخبارات الأميركية أن الصين الشيوعية تمثل تهديداً وجودياً، لكن واشنطن عجزت رغم ذلك عن ادراك هذه الحقيقة بسبب اعتناقها تعريفاً للحرب عفا عليه الزمن.
فالأميركيون، شأنهم شأن الأوروبيين، يعرّفون الحرب على نحو ما عرّفها "كارل فون كلاوزفتز": "الحرب فعل من أفعال القوة لإجبار عدونا على الرضوخ لإرادتنا." لكن عند النظر إلى الأمر عبر عدسة القرن الثامن عشر هذه، مع غياب اي فعل حركي ضد القوات الأميركية، لن تبدو الصين في حالة حرب. بيد أن جمهورية الصين الشعبية لا تلزم نفسها بالتعريف الغربي للحرب، بل تنظر بدلاً منه إلى ما كتبه "سان تزو" في كتابه "فن الحرب"، الذي ينص على أن "أعلى درجات التفوق تتمثل بكسر مقاومة العدو دون قتال" ثم يردف ذلك بتوصية: "هاجم ستراتيجيته أولاً".
يسعى الحزب الشيوعي الصيني إلى كسب حربه عن طريق تجريد الولايات المتحدة من الوسائل التي تمكنها من شن حرب حركية. لذا تضغط الصين مستغلة كافة مواردها المحلية واستثماراتها في المشاريع المملوكة للدولة من أجل احراز ميزة ستراتيجية بدلاً من العائدات التجارية. خلال العام 1987 أعلن زعيم الصين حينها "دنغ شياوبنغ" من خلال نظرة مستقبلية نافذة: "الشرق الأوسط لديه النفط .. والصين لديها العناصر النادرة". على هذا الاساس استثمرت الدولة واستثمرت إلى أن أنتجت اللاعب الصناعي الذي هيمن على العالم.
لتقليل الاعتماد على النفط المستورد، باعتباره نقطة ضعف، أطلق الحزب الشيوعي الصيني سياسة صناعية شاملة تركز على الكهربة. ابتدأت بكين بدعم من الدولة سرقة الملكية الفكرية الأميركية متوجهة نحو التصنيع في مجال التكنولوجيا النظيفة وزيادة الدعم للسيارات الكهربائية وفرض سياسات قسرية للتعجيل بتبنّيها.
وجهت الصين أكثر من ترليون دولار للاستثمار في مبادرة الحزام والطريق، وهذا يتضمن المعادن الحيوية الحساسة ويأتي في كثير من الاحيان على حساب حقوق الإنسان الاساسية. فوفقاً لتقرير صادر عن وزارة العمل الأميركية أن نسبة عمالة الأطفال والعمل القسري في اشغال التعدين الصينية قد ارتفعت، وهو أمر ينطوي على محاذير تقويض الوعود بمستقبل قائم على الاستدامة والمساواة، على حد تعبير التقرير. خلال العام 2023 رفعت بكين انفاقها على أعمال التعدين بنسبة 158 بالمئة مقارنة بمستوياتها في العام 2022 ما أدى إلى اغلاق خطوط التجهيز الرئيسية على المدى البعيد.
صعّدت جمهورية الصين الشعبية ايضاً حربها الاقتصادية خلال المدى القريب، إذ حدّت من تصدير الكرافيت الذي يشكل الجزء الأكبر من بطارية السيارة الكهربائية وكان ذلك خلال شهر تشرين الأول 2023. كما منعت تصدير تقنيات معالجة المعادن النادرة. وبحلول تموز 2024 أعلن الحزب الشيوعي الصيني أنه بصدد فرض قيود على صادرات معدني الجرمانيوم والغاليوم اللذين يستخدمان في الطاقة الشمسية والأجهزة البصرية المتقدمة والرقائق المايكروية.. بعد ذلك ببضعة أشهر أعلن الحزب أنه يتهيأ لفرض قيود على تصدير معدن الأنتيمون أيضاً، وهو معدن يستخدم في أنظمة الأسلحة الدفاعية المتقدمة. وجاء كانون الأول 2023 لينفذ الحزب الشيوعي الصيني تهديده بإجراء ربما سيكلف الولايات المتحدة نحو ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار.
إجراءات أميركية مقابلة
عبر السنوات اتخذت الولايات المتحدة من جانبها بعض الاجراءات، فقد اصدرت إدارة ترامب أول قائمة بالمعادن الحيوية في أميركا، كما أدرجت المعادن الحيوية ضمن مفردات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وسعت إلى تأمين انسياب تراخيص التعدين المحلية. اما إدارة بايدن فقد حشدت مليارات الدولارات من أموال دافعي الضرائب لتعجيل إجراءات معالجة المعادن المحلية وصناعات الطاقة النظيفة كما اطلقت ما يسمى "شراكة أمن المعادن". رغم ذلك بقيت هذه السياسات مفتقرة إلى التنسيق وحشد رؤوس الأموال بالمستويات المطلوبة لانشاء سلسلة تجهيز آمنة للمعادن الحرجة.
بدلاً من مجابهة التهديد الصيني وجهاً لوجه ارتأت واشنطن وأوروبا أنهما غير راغبتين في فك الارتباط بل إزاحة التهديد بشكل انتقائي حيثما كان ذلك مناسباً. هذا التركيز على التباينات اللفظية أدى إلى تقييد قدرة أميركا على التفكير وحدّ من خياراتها لمواجهة الحزب الشيوعي الصيني. لكن على الولايات المتحدة أن تدرك حقيقة التحدي الذي ينتظرها وتتبنى السياسات المطلوبة وتحسن توجيه القطاع الخاص لتحقيق النصر.
ويبدو أنه على إدارة ترامب الجديدة أن تعيّن مسؤولاً كبيراً يتولى تنسيق ستراتيجية شاملة بين الوكالات للمعادن الحيوية الحرجة. وينبغي لهذه الستراتيجية أن تدخل إصلاحات على تراخيص التعدين المحلية، وتحديث مخزونات أميركا المعدنية غير الكافية وفرض تعرفات كمركية صارمة على المنتجين الذين يستهينون بالبيئة وحقوق الإنسان. وتحتاج واشنطن لأن تنسق الجهود مع حلفائها مع ابقاء الأولوية للشركاء المستعدين لحشد رؤوس الأموال وتوجيه المؤسسات المالية في الولايات المتحدة نحو الاستثمار في مشاريع التعدين على المدى القريب في مختلف أنحاء العالم.
لقد فاز ترامب بالبيت الأبيض من خلال التحدث مباشرة إلى الشعب الأميركي، والساحة مفتوحة امامه للقيام بذلك مرة أخرى وبيان التكاليف والوقت والتضحيات المشتركة المحتملة المطلوبة لكسب هذه الحرب الجديدة.
عن مجلة
"ذي ناشنال إنتريست" الأميركية