المجمعات الطبيَّة تزحف على الأحياء السكنيَّة
بغداد : حسين عصام
تصوير: احمد جبارة
يشهد العديد من الأحياء السكنية في بغداد، انتشاراً متزايداً للأنشطة الطبية، حيث تحول عدد غير قليل من المنازل والمجمعات السكنية إلى مستشفيات أهلية وعيادات ومذاخر أدوية. هذا التحول أدى إلى تغييرات ملحوظة في بنية تلك الأحياء، ما أثار موجة من الاستياء والغضب بين السكان المحليين، لا سيما المناطق التي تنتشر فيها المجمعات الطبية الكبيرة، ومنها الحارثية وساحة بيروت وشارع المغرب وغيرها. ومع تزايد الضغط على البنية التحتية، يطالب العديد من المواطنين بضرورة اتخاذ تدابير تنظيمية للحد من هذا التوسع العشوائي للأنشطة الطبية، مثل إيجاد مناطق خاصة لهذه الأنشطة، ومن وجهة نظرهم، ينبغي الحفاظ على الطابع السكني للأحياء من أجل توفير بيئة معيشية مستقرة وآمنة.
معاناة السكان
أم زينب التي تسكن في شارع المغرب، تحدثت لـ"الصباح" عن معاناتها اليومية: قائلة "عندما قررنا السكن هنا قبل أكثر من عشر سنوات، كانت المنطقة هادئة وراقية. واليوم لا أستطيع حتى إيجاد مكان لركن سيارتي أمام منزلي بسبب السيارات المتوقفة قرب العيادات".
وتضيف "كما أن المخلفات الطبية تُلقى بشكل عشوائي، وهناك أطفال يلعبون في الشوارع، ما يجعلنا قلقين على صحتهم".
بدوره، يقول علي كاظم أحد سكان منطقة الحارثية: "لم يعد هذا المكان مناسباً للسكن.. حياتنا أصبحت مليئة بالضجيج والازدحام، والأخطر من ذلك هو التلوث الناتج عن المخلفات الطبية". رغد الجبوري، ربة منزل من سكنة الحارثية، تتحدث عن تأثير انتشار العيادات الطبية في الأحياء السكنية في حياتها اليومية، قائلة: "لم نعد نشعر بالراحة في منازلنا. هناك ازدحام مستمر، والضوضاء لا تتوقف. الأطفال لم يعودوا قادرين على اللعب بحرية بسبب السيارات التي تملأ الشوارع".
وتضيف رغد لـ"الصباح" أن هذه الازدحامات أثرت بشكل كبير في نوعية الحياة، حيث باتت المنطقة تعاني من ضغوط يومية بسبب حركة المرور الكثيفة.
تكاليف أقل
الدكتور حيدر التميمي، طبيب متخصص يدير عيادة في منطقة الحارثية، يوضح سبب اختياره هذه المنطقة، حيث يرى أن العيادات في المناطق السكنية توفر ميزة القرب المباشر من المرضى، ما يسهل الوصول إليهم ويسهم في تحسين مستوى الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، يشير التميمي إلى أن إيجارات العقارات في المناطق السكنية تكون أقل بكثير مقارنة بتلك الموجودة في المجمعات الطبية المتخصصة، ما يقلل من التكاليف التشغيلية على الأطباء ويسمح لهم بتقديم خدمات بأسعار معقولة.
من جهة أخرى، يلفت التميمي الانتباه إلى نقص المجمعات الطبية المنظمة في بغداد، حيث لا توجد أماكن كافية مخصصة لهذا الغرض، ما يجبر الأطباء على البحث عن أماكن بديلة مثل المناطق السكنية. ويرى التميمي أن هذا النقص في البنية التحتية الطبية يتسبب في الضغط على الأطباء ويدفعهم للبحث عن أماكن أكثر مرونة وأقل تكلفة. ومع تزايد الطلب على الخدمات الطبية، يتجه العديد من الأطباء إلى المناطق السكنية كحل مؤقت لتلبية احتياجات المرضى.
من جانب آخر، يشير السيد محمد جاسم، صاحب عقار في الحارثية، إلى تأثير آخر لهذه الظاهرة وهو ارتفاع الإيجارات بشكل كبير. يقول جاسم: "الإيجارات ارتفعت بسبب الطلب الكبير من الأطباء والمستشفيات، لكن هذا الارتفاع أثر سلبًا في السكان الأصليين الذين لا يستطيعون تحمل هذه التكاليف". وهذا أدى إلى عبء مالي إضافي على الأسر التي كانت تعتمد على الإيجارات المعتدلة في هذه المناطق.
الدكتورة إيمان عبد الكريم، طبيبة أسنان في منطقة المنصور، تؤكد أن العيادات في المناطق السكنية تسهّل الوصول إلى المرضى بشكل كبير، ما يسهم في تحسين مستوى الرعاية الصحية، ويجعلها في متناول العديد من الأشخاص. ومع ذلك، تعترف الدكتورة إيمان بالمشكلات المترتبة على هذه الظاهرة، حيث ترى أن الازدحام المروري والضوضاء المستمرة في المناطق السكنية قد يؤثران سلبًا في نوعية الحياة للسكان المحليين. وتضيف: "نحتاج إلى حلول توازن بين خدمة المرضى وتوفير بيئة سكنية مريحة وآمنة للسكان. من المهم أن نجد آلية تجمع بين تقديم الرعاية الصحية بشكل ميسر من جهة، والحفاظ على حقوق السكان في العيش في بيئة هادئة ومنظمة من جهة أخرى".
الازدحام المروري
الازدحام المروري أصبح نتيجة مباشرة لتحول المناطق السكنية إلى مدن طبية. الملازم حسن عبد الله من دائرة المرور العامة يوضح أن شوارع الحارثية أصبحت من أكثر المناطق ازدحامًا بسبب تزايد العيادات والمختبرات. وأضاف أنه يتم التعامل يوميًا مع شكاوى من السكان حول سيارات الزوار التي تغلق المداخل، ما يزيد الضغط على فرق المرور.
الأضرار البيئيَّة
المهندس ثائر يوسف، الخبير البيئي، أكد أن انتشار العيادات الطبية داخل المجمعات السكنية يعد ظاهرة غير صحيحة، مشدداً على ضرورة تخصيص هذه العيادات ضمن مجمعات طبية مخصصة ومجهزة بالمرافق الصحية اللازمة. وأوضح أن ذلك سيسهم في حماية السكان والبيئة، والحد من انتشار الأوبئة.
وأشار يوسف إلى أن معظم المرضى الذين يترددون على هذه العيادات يعانون من حالات مرضية تتطلب تشخيصاً وعناية طبية دقيقة، ما يزيد من احتمالية انتشار الأمراض المعدية بين السكان. وأضاف أن هذه العيادات بحاجة إلى مراقبة وإشراف صحي مستمرين من الجهات المختصة، فضلاً عن ضرورة توفير مرافق صحية ملائمة للحد من المخاطر البيئية والصحية.
وحذر يوسف من الأضرار الناجمة عن النفايات الطبية التي تنتجها هذه العيادات، مثل الفضلات البيولوجية والسوائل الناتجة عن المرضى. وأوضح أن التخلص غير السليم من هذه النفايات يؤدي إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، ما يشكل خطراً مباشراً على صحة الإنسان. وأضاف أن في بعض الحالات، يتم طرح المخلفات الطبية في شبكات الصرف الصحي دون معالجتها، ما يؤدي إلى تسربها إلى الأنهار والمياه الجوفية، الأمر الذي يسبب انتشار الأمراض ويؤثر بشكل كبير في جودة البيئة.
ولتقليص هذه الظاهرة، دعا يوسف إلى ضرورة انشاء مجمعات طبية مخصصة ومجهزة بوسائل تعقيم ومعالجة حديثة. كما شدد على أهمية تعزيز دور الجهات الرقابية في المتابعة والإشراف على هذه العيادات. كما أشار إلى ضرورة التعاقد مع شركات عالمية متخصصة للتخلص من النفايات الطبية بطريقة آمنة وصحية.
وأكد يوسف أن تعزيز ثقافة الحفاظ على البيئة والتوعية المجتمعية بخطورة انتشار العيادات العشوائية يمثلان جزءاً أساسياً من الحل. وأوضح أن تعاون أفراد المجتمع مع الجهات الصحية والبيئية يعد أساسياً للحد من تأثيرات هذه الظاهرة السلبية على الصحة العامة.
الضغط على البنية التحتية
ومع تزايد أعداد العيادات والمختبرات، تتعرض الخدمات البلدية في المناطق السكنية لضغط كبير. المهندس علاء حسن، من دائرة المياه والصرف الصحي يوضح لـ"الصباح" أن "البنية التحتية في هذه المناطق لم تُصمم لتحمل هذا العدد الكبير من الأنشطة.. نواجه مشكلات متكررة في شبكات الصرف الصحي وإمدادات المياه". في بعض تلك المناطق، اضطر السكان للجوء إلى القوانين والعشائر لوقف افتتاح عيادات في منازلهم.
السيد حسن الجبوري أحد وجهاء الحارثية يقول: "نضع لافتات تحذر من تحويل المنازل إلى مراكز طبية. السكان مستاؤون جدًا من هذه الفوضى، ويعدونها تعدياً على خصوصيتهم".
يؤكد المحامي سامي الدليمي أن هناك تداخلًا في الصلاحيات بين أمانة بغداد ووزارة الصحة وهيئة الاستثمار، هذا التداخل يؤدي إلى عدم محاسبة المخالفين، حيث تلقي كل جهة باللائمة على الأخرى.