الجسد المُحنّط

ثقافة 2025/01/19
...

  أثير الهاشمي


الجسد صورة الإنسان الظاهرة، في هيأتهِ، وتفاصيلهِ، صورة واحدة لا تختلف إلّا باللون أو الحجم، لكن التعابير واحدة، هكذا كان الجسد في الماضي، بشكلهِ، ولحمهِ، إذ يكمن جماله باختلاف أجزائه، لا بتشابهه، أو كما يرى أفلاطون: (أن جمال الكائنات في توازنهم، ومقياسهم)، أي تتناغم وتتناسق أجزاء الجسد فيما بينها.

أما اليوم فتغيّر الجسد، وتبدّلت التفاصيل، خاصة ما يتعلّق بجسد المرأة، الجسد الذي يتعرّض كلّ يوم إلى عمليات "التقبيح"، أقصد التجميل، فتحوّل من جسدٍ طبيعي في رسمهِ، وهيأتهِ، إلى جسد ٍ مُحنّط في تفاصيلهِ، وتحوّلت الوجوه من ملامحٍ لوجوه متعددة، إلى صورٍ لنساء متشابهة.

بالأمس كانت المرأة، امرأة، مختلفة في تفاصيل وجهها، سواء أكانت بيضاء أم سمراء، بعدما كانت لكلّ امرأة ملامحها التي تمتاز بها، لا تشبهها أي امرأة، في عيونها، وأنفها، وفمها، وكامل جسدها، أما اليوم.. فقد تشابهت علينا النساء.

النساء مثل الفاكهة، في الشكل والمنظر، لكلّ امرأة خصائص تختلف بها عن الأخرى، هكذا كُنّ، أما اليوم، فصارت لعمليات التغيير تجليات أُخر، إذ تحوّلت أغلب النساء إلى صورة واحدة، في الوجوه، وفي الأنوف، وفي الفم، الفم الذي صار "منفوخاً"، بقبحهِ لا "مُفعماً" بجمالهِ، الفم الذي ضاع في رسمهِ، وملامحهِ، وشكلهِ، وصارت الشفاه مثل شفاه آليّة، لا حمراء ولا طبيعيّة، غير أنها لا تسرّ الناظرين.

شفاه النساء كانت مختلفة في جمالياتها، قبل أن تتشابه في قبحها، تلك الشفاه القديمة التي كان يتغنّى بها الشعراء، فهي كالروح في حضورها حين تتحدّث، تستفزّ القلوب حين تصمت، وتخبّئ الحزن حين تبتسم، ومن ذلك ما نجده في تعبير الشاعر بدر شاكر السيّاب، إذ يقول: (هبت تغمغم: سوف نفترق/ روح على شفتيك تخترق/ صوت كأن ضرام صاعقة/ ينداح فيه.. وقلبي الأفق/ ضاق الفضاء وغام في بصري/ ضوء النجوم وحطم الألق).

يرى السيّاب في المرأة التي يصف صورة مُغايرة، خاصة بما يتعلّق بجسدها، أو بفمها على وجه التحديد، إذ يرى السياب أن الروح تحطّ على شفتيها؛ مما يجعل العلاقة الغزلية التي تنبض من خلال الشفاه مرتبطة بالروح في الرغبة والإحساس. أو قد يكون الفم مرئياً بشفتيه، أو غير مرئي بقيمتهِ، بحسب وصف الشاعر أدونيس لمعنى القُبل على الشفاه، إذ يقول: (ما القبلة؟/ قطاف مرئي/ لثمر غير مرئي). 

كانت لكلّ امرأة مزايا مُختلفة، لا تُزيد فيها، ولا تنقص منها شيئا، حتى أن الشفاه مُميزة في الشكل والهيأة؛ لذلك تغزّل الشعراء بكلّ ملامح المرأة، فلكل شاعر امرأة تغزّل بظاهرِ جسدها، وأعطى الرمز لكلّ جزءٍ من الجسد، خاصة الشفاه منها، كقول الشاعر نزار قباني وهو يتغزل بشفاه المرأة، التي تختلف بما قدّمه لها من تشبيهات خاصة: (مشبوهة الشفتين، لا تتنسكي/ لن يستريح الموعد المكبوت/ شفتان معصيتان/ أصفح عنهما/ ما دام يرشح منهما الياقوت/ شفتان للتدمير، يا لي منهما/ بهما سعدت، وألف ألف شقيت/ شفتان مقبرتان، شقهما الهوى/ في كل شطرٍ أحمرٍ تابوت/ شفةٌ كآبار النبيذ مليئةٌ/ كم مرةٍ أفنيتها وفنيت/ الفلقة العليا.. دعاءٌ سافرٌ/ والدفء في السفلى.. فأين أموت؟).

إنّ ما يُميّز وصف قباني لشفاه المرأة التي يتغزل بها، هو ما قدّمه من مزايا خاصة بشفتيها، من خلال الرمز والتشبيه والاستعارة، وكأن لشفاه تلك المرأة مزايا تختلف بها عن بقية النساء، فيما تبعثه تلك الشفاه من طمأنينة، أو حيرة، فهو يُعطي لكلّ شفة صفة خاصة، ورمزية معينة، فمثلاً هو يصف الفلقة العليا بأنها (دعاء سافر)، و(الدفء في السفلى)، ومن ثم يحتار أين يموت ما بين حيرة العُليا، أم طمأنينة السفلى.

كان الشعراء يُضفون على نصوصِهم، نغمات طريّة لملامحٍ أشبه ما تكون مُشرقة في كينونتها، خاصة وجه المرأة التي يتعلقون به، فيضفون عليها رمزية خاصة، يتعلّقون بها إحساساً، ومشاعر من دون حدود؛ لصناعة جمال آخاذ، فكلّ جزء من الوجه كان يُثيرهم، بواقعيتهِ المرسومة، وبطبيعته التي خُلق عليها، وهذا ما جعل الشعراء يرسمون رؤية خالصة من الرغبة في ما يجدون فيها من أثر للجمال، ومنها الشفاه، كقول الشاعر محمود درويش، وهو يتمنى واقعاً كما يُريد: (ماذا يثير الناسَ لو سرنا على ضوء النهارْ/ وحملتُ عنكِ حقيبة اليد.. والمظلةْ/ وأخذت ثغرك عند زاوية الجدار/ وقطفت قبلة).

يُثير درويش أسئلته التي تجول في خاطرهِ على أمل وجود إجابات تُضفي له بتحقيق ما يصبو إليه، فهو يتخيل مشهداً رومانسياً، يحقّق فيه رغبة التمنّي، مقابل واقعه المستحيل، وهذا ما أكّد عليه في نصوصه: (أمس التقينا في طريق الليل/ من حانٍ لحان/ شفتاك حاملتان/ كل أنين غاب السنديان).

يُجبر درويش في خلق رؤية رمزية خيالية، تتجلّى فيها البلاغة، في اللفظ ومعناه، من خلال ما تُثيره شفتاها في نفسهِ، عندما يجعل منهما تحملان كل الأنين.

يصف الشعراء النساء ومن بينهم محمود درويش على افتراض ما لا يُفترض، أي تشكيل النصّ بتخييل مفعم بالواقعية، وواقع يُرمز بالخيال، ومن ثم فنصوص درويش التي تصف النساء، تُرجعنا إلى ما تحدثنا به مسبقا حول شكل المرأة بطبيعتهِ الحيوية، لا بسكونهِ المُحنط في الوقت الحاضر.

يقدّم درويش نصوصه الشعرية على لغة متوازنة، لا حائرة ولا قلقة، خاصة عندما يصف المرأة بما تحمله من ملامح واقعية من دون هفوات التجميل، أو غيرة العمليات المموهة، ومن نصوصه التي يصف بها المرأة بما يراه بها من مزايا، إذ يقول: (وحين أُحدِّق فيك/ أرى مُدناً ضائعةْ/ أرى زمناً قرمزياً/ أرى سبب الموت والكبرياء/ أرى لغة لم تسجّل/ وآلهة تترجّل/ أمام المفاجأة الرائعةْ).

يتشكل نص درويش على وفق رمزية اللغة المُنتجة لمعانٍ مُتخيلة، تحتاج إلى رؤية ذاتية قائمة بنفسها، فهو يرى بالمرأة التي يتغزل بها رؤى متعددة، ومزايا مختلفة: (حين أحدق فيك: أرى مُدناً ضائعة/ زمناً قرمزياً/ سبب الموت والكبرياء/ لغة لم تُسجل/ آلهة تترجل).

والسؤال الذي يُطرح، ماذا لو عاد درويش، هل يجد ثمة ما تُظهره النساء من خفايا الجمال، أو ما تُخفيه من ظواهر الأسرار! في ظلّ عمليات تشويه الجسد، أو تحنيطه بملامحٍ مُتشابهة، وهل يرى ما لا يراه الآخرون حين يُحدّق بها، فيرى فيها: (وحين أحدِّقُ فيكِ/ أرى كربلاء/ ويوتوبيا/ والطفولةْ/ وأقرأ لائحة الأنبياء/ وسفر الرضا والرذيلةْ../ أرى الأرض تلعب/ فوق رمال السماءْ/ من البحر/ والشرفات البخيلةْ).

هكذا كان الوجه بملامحهِ وتعابيرهِ، كوجه المرأة التي وصفها درويش، فيها يرى ما لا يُرى، فهو يرى في وجهها: (كربلاء/ ويوتوبيا/ والطفولةْ/ أرى: الأرض تلعب- فوق رمال السماءْ). وهو يقرأ في وجهها: (وأقرأ لائحة الأنبياء/ وسفر الرضا والرذيلةْ).

تتجلّى جماليات المرأة باختلافها، لا بتشابهها مع البقية من النساء في تفاصيل المعاني، وفي روحها النابضة من خلال ملامح وجهها، لا في الخراب المُعلن فيه، هي تدعو إلى القبح، لا الجمال في الأنف المُعاد صياغته بكتلوك جاهز، أو فمها المنفوخ الذي يشبه بطن الهذيان بانتفاخه، عند شراهة إبر الاستعارة المُعادة؛ ليكون الوجه خاوياً بلا روح، مُحنطاً بلا عافية.

نحتاج إلى أجسادٍ زاهية بطبيعتها، لا أجساد مُحنطة بآليتها، نحتاج إلى نساء تشرق في وجوههن الحياة، لا الموت، وينبض في وجوههن الجمال لا القبح، نحتاج إلى نساء تهيمن عليهن الأنوثة لا الذكورة، نحتاج إلى نساء، يُفعمن بالخجل، لا الجرأة من دون حياء.