الفساد والإقصاء.. عوامل خفيّة وراء انهيار الجيوش

بانوراما 2025/01/22
...

  ستيوارت أي ريد

 ترجمة: أنيس الصفار

       

بحلول العام 2017، وبعد ست سنوات من الحرب الأهلية، انتهى الحال بسوريا بشار الأسد إلى وضع غدا هو الوضع الطبيعي الجديد.. إذ لم يكن بالوسع مقارنته بذلك الوضع الهادئ الذي كانت تنعم به عائلة الأسد قبل الربيع العربي منذ قمعها التمرد الذي قاده المتشددون في ثمانينات القرن العشرين، بيد أنه كان استقراراً على أي حال. فبمساعدة من روسيا وإيران وحزب الله -  وكذلك الولايات المتحدة التي كانت حينها تحارب تنظيم "داعش"- نجحت القوات السورية في اِلحاق الهزيمة بالمتمردين، ومع مرور السنين فرضت الحكومة سيطرتها على ما يقارب ثلثي مساحة سوريا.

عندما اطمأن الرئيس بشار الأسد إلى استتباب سلطته قام برحلات إلى خارج البلاد، فزار موسكو وبكين وأبو ظبي وطهران وبدا يومها كأن الجميع تقبلوا، ولو على مضض، حقيقة أن الرجل القوي عاد ليبقى وأصبحت عودة العلاقات هي الكلمة التي تتردد حتى بين الدبلوماسيين الغربيين. 

كل ذلك الاستقرار تبدد ذات يوم بعد هجوم مباغت استمر عشرة أيام نفذته الجماعة المسماة "هيئة تحرير الشام"، وذابت قوات الجيش العربي السوري عندما تخلى الجنود عن مواقعهم وخلعوا زيهم العسكري.

استولى المتمردون على دمشق بلا قتال ونُقِل بشار الأسد على وجه السرعة إلى موسكو، وما يثير الدهشة أنه حتى المعارضة السورية فوجئت بالسهولة التي جرى فيها الأمر.


عوامل متكّررة

هذا الاستسلام المفاجئ وغير المتوقع للجيش السوري يمثل نمطاً قديماً ممتداً لمصير جيوش ظاهرها القوة وباطنها الهشاشة والضعف لا تلبث أن تتفتت وتنهار أمام تقدم المتمردين وسط دهشة الجميع وذهولهم. 

احدث مثال على ذلك ما شهدته أفغانستان خلال صيف العام 2021 عندما تقوض بنيان الجيش الوطني الأفغاني في غضون أشهر مع صعود حركة طالبان إلى السلطة، إذ كانت الولايات المتحدة قد دربت الجيش الأفغاني وجهزته وانفقت عليه ما يقارب 83 مليار دولار طيلة عقدين من الزمن. 

قبل ذلك كان تنظيم "داعش" قد شن هجوما سريعا على أجزاء كبيرة من العراق منتصف العام 2014 عندما وأسفر الأمر عن استيلاء داعش على مناطق واسعة من البلد. 

وخلال العام نفسه سيطر الحوثيون في اليمن على العاصمة صنعاء خلال أيام قليلة وأطاحوا بحكومة عبد ربه منصور هادي.

اذا رجعنا إلى الماضي قليلاً نجد أن الظاهرة نفسها تكررت في جمهورية أفريقيا الوسطى سنة 2013 عندما أطاح تحالف من المتمردين يدعى "سيليكا" بالحكومة خلال أشهر واستولى على العاصمة بانغي دون مقاومة تذكر. أما الرئيس المطارد "فرانسوا بوزيزي" فقد انسل هارباً إلى الكاميرون. 

إلى الجنوب من تلك الدولة كانت زائير قد شهدت تفكك قوات "موبوتو سيسي سيكو" سنة 1997 امام قوة للمتمردين زحفت من شرق البلاد. وإذ أطبق المتمردون على قصره وسط الغابة فر موبوتو إلى المغرب. 

من المستحيل في هذه الحالات التنبؤ بموعد حدوث الانهيار.. فعندما تمارس لعبة "جنغا" لا يمكنك ابداً معرفة القطعة التي سيؤدي سحبها إلى انهيار البرج بأكمله، ورغم ذلك يمكن دائماً تشخيص أسباب الانهيار، ففي المرة تلو الأخرى نرى العوامل نفسها تنخر الجيوش وتضعفها بمواجهة حركات التمرد.


الإقصاء العرقي

أول هذه العوامل الإقصاء العرقي. فالحكومات القلقة تلجأ في اغلب الاحيان إلى شغل المناصب داخل جيوشها، لا سيما الرتب العليا، بأشخاص منتمين عرقياً إليها.

ولا ينكر أن لهذا النهج مزاياه، وأولها ضمان مزيد من التلاحم والولاء، كما أنها طريقة مجرّبة عبر العصور لتحصين النظام ضد الانقلابات. 

فمع الحروب الأهلية ذات البعد العرقي لا مفر في كثير من الاحيان من تشكيل القوات الحكومية من جماعة غير التي ينتمي اليها المتمردون، رغم أن ذلك سيولد حتماً شعوراً بالاستياء بين الجماعات المستبعدة. 

خلال تسعينيات القرن العشرين كان أكثر من نصف جنرالات الجيش الزائيري ينحدرون من المقاطعة ذاتها التي ينتمي اليها موبوتو، وثلث هؤلاء ينتمون إلى نفس مجموعته العرقية الصغيرة نسبياً، وهي النيغباندي.

أما جمهورية افريقيا الوسطى التي كانت إحدى مظالم المتمردين الرئيسية فيها هي رفض الحكومة دمج جماعات عرقية معينة بالجيش. 

كذلك كان شيعة اليمن يشعرون بأن هناك تجاهلاً لمخاوفهم خلال عهد هادي السني.. ومع حالة الجيش الوطني الافغاني كان الطاجيك يمرون بمرحلة من المراحل يشكلون فيها أكثر من ثلثي القادة رغم انهم لا يمثلون سوى ربع تعداد السكان.

أما سوريا، فكان نحو 70 بالمئة من الجنود و80 بالمئة من الضباط ينتمون إلى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد، رغم أن هذه الطائفة لا تمثل سوى 13 بالمئة من عموم السكان. 

كذلك كانت هيمنة أبناء هذه اطائفة شبه مطلقة على الحرس الجمهوري، وهي مجموعة الحماية النخبوية التي يرأسها أحد أشقاء بشار الأسد. 


الفساد 

يبدو أن عامل التآكل الفعال الآخر الناخر للجيوش هو الفساد. فالحكومات الضعيفة تعجز في كثير من الاحيان عن تأمين الأموال الكافية لشراء ولاء جنودها، لذا تتعمد التغاضي عن ممارسات الابتزاز، او حتى التشجيع عليها على نحو غير مباشر، بل إن موبوتو سيسي سيكو وجه اتباعه ذات مرة بممارسة السرقة "لكن بذكاء" .. أما الجيش اليمني، وكذلك الجيش الأفغاني، فتكون الترقيات لديهما من نصيب أصحاب العلاقات المؤثرة او المستعدين لدفع الرشوة بدلاً من أصحاب 

المؤهلات. 

ومن جهة أخرى فإن قوائم الرواتب الخاصة بهذه الجيوش تغص بآلاف الجنود الشبحيين (الفضائيين) وتختلق مناصب لا وجود لها من أجل إتاحة الفرصة للقادة لاختلاس الرواتب المفترضة لأولئك الجنود. 

وبالنسبة لجيش أفغانستان كان يشتبه بأن ضباط سلاح الجو الفاسدين يقومون بتهريب الأفيون والأسلحة، كما كان العديد من قادة الجيش الأفغاني أمراء حرب أو ممن تحالفوا ذات يوم مع حركة طالبان  التي كانت تقاتل ضدهم، وكان ولاء هؤلاء القادة معروضا لمن يدفع سعراً أعلى. 

وعندما اجتاحت قوات حركة طالبان البلاد مطلع آب 2021 لم تضطر للقتال في كثير من المناطق، بل كان كل ما فعلته الحركة هو دفع رشى مغرية للمسؤولين الأمنيين ثم مراقبة الجنود وهم يلقون السلاح.

الجيش السوري هو الآخر كان ينوء بالفساد المتغلغل فيه، بدءا من ابتزاز السيارات عند نقاط التفتيش إلى مشروع انتاج وبيع الكبتاغون الذي بلغت كلفته مليارات الدولارات. 

كان أفراد الجيش من الرتب الصغيرة يتبرمون من ضباطهم الذين يسرقون قسائم الوقود التي تصرف لهم، كما يؤكدون أن على الجندي الذي يريد الحصول على إجازة دفع المال مقابل هذا الامتياز، بحسب التقارير.

إن استشراء الفساد بين صفوف الجيش يؤجج سخط الأهالي، الذين هم من يقتات المتمردون على تأييدهم ودعمهم. 

كذلك يضعف الفساد المستشري قدرات الجيوش عن طريق حرف الموارد بعيداً عن الاستثمار في شراء السلاح والمعدات ودفع رواتب القوات، علاوة على إثارته نقمة الرتب الأدنى. 

إذ لا أحد لديه الاستعداد للموت مِن أجل مَن ينهبون البلد، بحسب وصف مسؤول أفغاني. 

وقد ثبت مصداق هذا القول مع سوريا ايضاً، حيث لم ينفع وعد الأسد في اللحظات الأخيرة بزيادة رواتب الجنود السوريين بنسبة 50 بالمئة في بعث الروح المعنوية للجيش.

الداعمون الخارجيون

العامل الأهم وراء انهيار الجيوش فيما شهدناه مؤخراً كان خارجياً أكثر منه داخلياً .. وهو فقدان دعم الراعين الأجانب. فالحكومات الضعيفة تحتاج عادة إلى العون الخارجي للاحتفاظ بسيطرتها على أراضيها، ومتى ما نزع الراعون الأجانب دعمهم كان ذلك بمثابة سحب القطعة الأخيرة الحاسمة التي تنهي

لعبة "جنغا".

لم يكن من باب الصدفة أن ينهار الجيش الزائيري في أعقاب الحرب الباردة عندما لم تعد الولايات المتحدة ترجو نفعاً من نظام موبوتو، فنفضت يدها منه كحليف بلا مقدمات. 

أما جمهورية افريقيا الوسطى فقد خفّت فرنسا، وهي القوة الاستعمارية القديمة، لنجدة الحكومة خلال معاركها السابقة مع المتمردين، ولكنها بحلول العام 2013 أوضحت بأنها لن تفعلها مرة أخرى. 

وعندما كان الجيش اليمني على حافة الانهيار أحجمت الولايات المتحدة، التي سبق لها مساعدة الحكومة ضمن حملة محاربة تنظيم القاعدة، عن مد يد العون له لمحاربة حركة الحوثيين. 

ِأمر مماثل حدث في أفغانستان عندما عجّل انسحاب القوات الأميركية بانهيار الجيش (وهو الأمر نفسه الذي حدث بالضبط مع فيتنام الجنوبية قبل ذلك بوقت طويل عندما اجتاحتها قوات فيتنام الشمالية).

لقد كان السبب المباشر لتبخر الجيش السوري هو الانحسار الحاد للدعم الأجنبي. 

فروسيا منشغلة بأوكرانيا، وقواتها الجوية لم يمكنها إعادة ذلك السيل من الطلعات الذي أنقذ حكومة بشار الأسد سنة 2015. 

كذلك كان حزب الله يتعرض لضربات اسرائيلية مكثفة مؤخرا جنوب ووسط لبنان، ومن ذلك الهجوم بأجهزة النداء المتفجرة، لذا لم يكن قادراً على ارسال الأعداد التي كان يرسلها من المقاتلين. 

أما إيران فقد كانت متأهبة ترقباً للضربات الاسرائيلية، لذا سرعان ما سحبت قوتها العسكرية من سوريا.

الجيوش التابعة لحكومات غير ممثلة غالباً ما تكون نماذج مصغرة لتلك الأنظمة. 

لذا كان الجيش السوري، على غرار الدولة السورية، هشاً خاوياً سريع التفتت أعملت فيه سنوات الفساد والإقصاء نخراً ونهشاً حتى لم يعد يقوى بالكاد على الوقوف دون دعم خارجي، وحين نلقي نظرة إلى الوراء لا يعود سقوط النظام بهذه السرعة هو المدهش بل تمكنه من البقاء طيلة هذه الفترة.


عن مجلة 

"ذي ناشنال إنتريست" الأميركية