تحولاتٌ جديدةٌ في العلاقات الأميركيَّة - الخليجيَّة
اسماعيل نعّار
ترجمة: أنيس الصفار
عندما كان "دونالد ترامب" رئيساً للولايات المتحدة في دورة حكمه السابقة، كانت للأنظمة الملكيَّة الثريَّة في الخليج العربي أطيب العلاقات وأكثرها انسجاماً مع إدارته. والآن، مع عودته الى البيت الأبيض، بدأ قادة هذه الدول الخليجيَّة يعبرون عن ترحيبهم بعودته. بيدَ أنَّ دول الخليج والرئيس الجديد سيجدون أنفسهم منقسمين هذه المرة على ما يبدو حول عدد من القضايا الأساسية على رأسها اسرائيل وإيران، كما يمكن أن تكون الخلافات بشأن سياسات الطاقة مصدراً للاحتكاك هي الأخرى.
من المستبعد طبعاً أن تبرز توترات او انشقاقات جديَّة بين الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج، بيد أن ترامب سيواجه منطقة شهدت تحولات جذريَّة منذ شن تل أبيب حربها على غزة ردّاً على الهجوم الذي قادته حركة حماس صبيحة 7 تشرين الأول 2023 والذي استمرت الحرب بعده 15 شهرا؛ مخلّفة عشرات الآلاف من الضحايا والجرحى والدمار الشامل للبنية التحتيَّة لقطاع غزة.
الحرب على غزة، التي أودت بحياة ما لا يقل عن 46 ألف شخص وفقاً لمسؤولي الصحة في القطاع، سرت ارتجاجاتها حتى عمّت المنطقة بأكملها. حيث تعرّض حزب الله اللبناني، وهو الجماعة المقاتلة الداعمة لحركة حماس، لضربات شديدة جراء القتال الذي استمر أكثر من عام بين قوات الحزب وبين اسرائيل، في حين تمكن المتمردون في سوريا من اسقاط نظام حكم الرئيس بشار الأسد.
اليوم، وبينما يعكف ترامب على شغل مناصب حكومته بالمتشددين حيال إيران والمدافعين المتحمّسين عن اسرائيل، يدعوه القادة الخليجيون علناً الى اتخاذ مواقف أكثر ليونة تجاه إيران وأشد صرامة مع حكومة نتنياهو. كذلك يناشد هؤلاء القادة الولايات المتحدة أن تبقي على مشاركتها واهتمامها بشؤون المنطقة.
إدارة ترامب من ناحيتها تبدو متطلعة وراغبة حالياً بالتعامل مع القوى الخليجية الكبرى، كالمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة.
خلال شهر كانون الأول الماضي كان "ستيف ويتكوف"، الذي اختاره ترامب مبعوثاً الى الشرق الأوسط، لحضور مؤتمر العملة الرقميَّة "بتكوين" في العاصمة الاماراتية أبو ظبي وكان بصحبته "إيريك ترامب" نجل الرئيس المنتخب. توجه ويتكوف ايضاً الى الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية حيث التقى بولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وفقاً لوكالة أكسيوس.
فيما يلي نظرة عن كثب على القضايا التي سيواجهها ترامب وهو يقود مركبه في خضم علاقات آخذة بالتحول مع حلفائه الخليجيين التقليديين.
التعامل مع الشرق الأوسط
كانت إحدى أبرز الدعوات التي تلقاها ترامب من منطقة الخليج بتجنب انتهاج أجندة انعزاليَّة، تلك الدعوة التي وجهها اليه الأمير تركي الفيصل، الرئيس السابق لجهاز المخابرات السعودي. فمن خلال رسالة مفتوحة الى الرئيس الأميركي (المنتخب) نشرتها صحيفة "ذي ناشنال"، ومقرها أبو ظبي أواخر شهر تشرين الثاني الماضي، أشار الأمير تركي الى محاولة الاغتيال التي تعرض لها ترامب معرباً عن اعتقاده بأن الله قد حفظ حياة ترامب ليمكنه من إتمام مهمته التي ابتدأها بشأن الشرق الأوسط خلال دورته الأولى. والمهمة هنا هي "السلام". هذه العبارة كتبها الأمير بأحرف بارزة.
بعد ذلك ببضعة أيام أرسل أنور قرقاش، مستشار الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، رسالة مشابهة سُلّمت خلال مؤتمر عقد في أبو ظبي.
قال قرقاش عبر رسالته أن القيادة الأميركية والشراكة الأميركية لا غنى عنهما بالنسبة للخليج المحاط بمنطقة تكتنفها اجواء مكفهرة. مضى قرقاش برسالته موضحاً: "نحن بحاجة الى قيادة قوية مفعمة بالنشاط وذات قدرة على الموازنة بين أسباب القلق الانساني والمصالح الستراتيجية".
حزم أشد ازاء اسرائيل
كان التحول الأشد إثارة للانتباه بشأن حكومة نتنياهو عبر رسائل الخليج هو الموقف الذي أعلنه ولي العهد السعودي. فخلال حديثه أثناء مؤتمر القمة العربية الذي استضافته العاصمة الرياض مؤخراً نعت الأمير محمد الحملة العسكرية الاسرائيلية على غزة لأول مرة بأنّها "إبادة جماعيَّة".
قبل اندلاع الحرب على غزة مباشرة أوائل تشرين الأول 2023 بدت المملكة العربية السعودية وكأنّها على وشك إقامة علاقات دبلوماسية مع اسرائيل حتى من دون ان تلتزم الأخيرة بتنفيذ الشرط المسبق المفروض عليها، وهو إقامة دولة فلسطينية. صفقة كهذه كان من شأنها لو تحققت أن تعيد تشكيل منطقة الشرق الأوسط برمتها.
أحد المسارات المخططة لذلك كان يتضمن قيام السعودية بتطبيع العلاقات مع تل أبيب مقابل حصولها على ارتباطات دفاعية أقوى مع الولايات المتحدة، علاوة على الدعم الأميركي لإنشاء برنامج نووي مدني للمملكة العربية السعودية. بيد أن تصريحات الأمير محمد الأخيرة تشي بأن أي صفقات من هذا النوع قد أمست بعيدة المنال.
فضلا عن تصريحه الذي أشار فيه الى الإبادة الجماعيَّة الذي شهدته مناطق غزة أوضح الأمير كذلك أن المملكة العربية السعودية لن تقيم علاقات دبلوماسية مع اسرائيل حتى انشاء الدولة الفلسطينية، وهو منظور يبقى بعيد الاحتمال بسبب المعارضة القوية لفكرة هذه الدولة داخل حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي "بنيامين نتانياهو".
يقول رجل الأعمال السعودي علي شهابي، المقرّب من العائلة السعودية الحاكمة: "أعتقد أن ولي العهد قد أراد إيضاح موقفه بشكل لا يدع مجالاً للشك". أرسلت الإمارات العربية المتحدة – وهي من الموقعين على الاتفاقات الابراهيميَّة – بدورها إشارات تنمُّ عن موقف متشدد تجاه اسرائيل. فقد أبلغ وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد نظيره الوزير الاسرائيلي الجديد جدعون ساعر مطلع الشهر الحالي ان الإمارات لن تدخر وسعاً في دعمها للفلسطينيين، على حد تعبيره.
رغم موقف المملكة العربية السعودية المعلن بشأن موقفها من صفقة التطبيع مع تل أبيب يشير الدبلوماسيون الأميركيون الى أن المملكة ربما تكون منفتحة على صعيد المحافل الخاصة للتحرك صوب مثل هذه الصفقة خلال دورة ترامب الثانية، لكن بشرط إحلال وقف دائم لإطلاق النار في غزة (والذي دخل حيز التنفيذ مؤخرا) مع التزام مؤكد من جانب اسرائيل بالمضي على مسار إقامة الدولة الفلسطينية.
وقال وزير الخارجية الأميركي المنتهية ولايته "أنتوني بلنكن": "كل ذلك سيكون مهيأ للانطلاق إذا ما لاحت الفرصة خاصة مع تحقق وقف إطلاق النار الذي شهدته غزة مؤخراً الى جانب التفاهمات التي قد يتوصل الفلسطينيون إليها بخصوص الطريق الذي سيسلكوه للمضي قدماً. لذا ثمة فرصة عظيمة هنا".
الانفتاح على إيران
خلال دورة ترامب الرئاسيَّة الأولى كانت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كلتاهما تؤيدان مواقف إدارته المتشددة من إيران التي تعتبرانها منافساً خطيراً لهما وسط المنطقة الملتهبة.
لذا أعربت كلتا الدولتين عن سرورهما عندما قرر ترامب سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران. إلا ان ديناميكيات المنطقة شهدت تغيرات منذ دورة ترامب الأولى، فقد توصلت المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الاسلامية الى اتفاق آذار 2023 الذي كانت نتيجته تخفيف التوترات لعموم منطقة الخليج وفتح الطريق أمام اتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى. كذلك الأمر مع مملكة البحرين التي أرسلت إشارات ايجابية الى الحكومة الإيرانية بعد سنوات من التوتر، حيث صرّح الملك حمد بن عيسى آل خليفة أن ما من سبب يبرر التأخّر في استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، كما أدانت المملكة الصغيرة استهداف اسرائيل لإيران خلال شهر تشرين الأول الماضي عندما لاح شبح الحرب بتبادل الهجمات بينهما. الهدف من وجهة نظر المملكة العربية السعودية واضح، وهو إيجاد بيئة اقليميَّة مستقرة مواتية لتحقيق حلم الأمير محمد بتنويع موارد الاقتصاد السعودي المعتمد على النفط وحده. أما بالنسبة لإيران فقد جعلت عقود العزلة الاقتصادية والسياسية، التي فاقمتها الاضطرابات الداخلية، من المصالحة مع الرياض مسألة ضرورية. هناك مؤشرات أيضاً على ان جمهورية إيران قد تكون منفتحة على التفاوض مع الرئيس ترامب، إذ طالب عدد من المسؤولين السابقين والخبراء المختصين وافتتاحيات الصحف في طهران الحكومة علانية الى التعامل مع الرئيس ترامب خلال دورة حكمه الثانية.
من جهته، يبدو الرئيس الأميركي الجديد منفتحاً هو الآخر حتى الآن، على الأقل حيال انتهاج مسار مختلف عن حملة "الضغوط القصوى" التي مارسها خلال دورته الأولى. فقبل نهاية شهر تشرين الثاني التقى مستشار ترامب المقرّب "إيلون ماسك" بسفير إيران لدى الأمم المتحدة، بحسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين. وقبل ذلك بشهرين كان ترامب قد قال، في إشارة الى التهديد المتمثل بمساعى إيران لحيازة أسلحة نووية: "لا بدَّ لنا من التوصل الى صفقة لأن المحذورات المتوقعة لا يمكن تخيلها".
احتكاكات محتملة بسبب النفط
على الرغم من ان دول مجلس التعاون الخليجي: وهي البحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة، تبدو منفتحة على نهج ترامب الدبلوماسي القائم على التعامل المتبادل، فإنها قد تجد نفسها واقعة تحت ظل الخلاف مع سياساته الاقتصادية.
كان أحد وعود ترامب الاساسية خلال حملته الانتخابية تعزيز انتاج النفط والغاز الذي تمتلك منه الولايات المتحدة احتياطيات ضخمة، وهو تحرك سيلحق الضرر باقتصادات الخليج. فإذا ما رفعت الولايات المتحدة انتاجها النفطي، كما تعهد ترامب، سيضيق المجال امام المنتجين الخليجيين لرفع إنتاجهم من دون التسبب بهبوط الاسعار. خلال تقرير له مؤخراً، قال بدر السيف، الزميل المشارك ضمن معهد "تشاثام هاوس" للابحاث والذي مقره لندن: "إن زيادة أعمال التنقيب عن النفط واستخراجه ستؤدي الى خفض الأسعار فضلا عن تهديد اقتصادات الخليج المعتمدة على النفط". من المتوقع ايضاً أن يرفع ترامب وتائر العمل بالنسبة لمشاريع الغاز الطبيعي المسال وبذلك يلغي تجميد التراخيص الذي كان الرئيس السابق جو بايدن قد فرضه؛ وما سيعقب ذلك من زيادة صادرات الولايات المتحدة، لا سيما الى اوروبا. من المرجّح أن تتأثر بهذا الأمر دولة قطر، لأنها أحد اكبر منتجي الغاز على مستوى العالم، فضلا عن الولايات المتحدة، إلا أنها تمكنت حتى الآن من تخفيف دواعي قلقها.