تراكم النفايات.. كارثةٌ بيئيَّةٌ وصحيَّةٌ تُهدِّد المدن
بغداد : رحيم رزاق الجبوري
الزيادة السكانية والتوسع العمراني السريع في العراق، وخاصة في العاصمة بغداد، أديا إلى زيادة هائلة في حجم النفايات الناتجة عن الأنشطة البشرية اليومية. هذه الزيادة تشكل ضغطا كبيرا على الجهات البلدية المسؤولة عن إدارة النفايات، خاصة في ظل محدودية الموارد المالية والبشرية والتقنية المتاحة.
مع قلة التخصيصات المرصودة لهذا الغرض، فضلا عن نقص في الآليات وتدني أجور عمال النظافة، برزت عادة مستهجنة وخطيرة ألا وهي حرق النفايات وسط المساكن والمحال والمعامل والتي تولد غازات وروائح كريهة وخانقة، فضلا عن منظرها البشع وغير الحضاري.
لا يقتصر حجم التلوث الناجم عن النفايات وتراكمها وطمرها العشوائي على التأثيرات البيئية المباشرة فحسب، بل يمتد ليشمل مخاطر جسيمة تهدد المحاصيل الزراعية وتلوث الأنهار، بالإضافة إلى مشكلات كبيرة تسببها ملايين القناني البلاستيكية التي تسد مجاري الصرف الصحي وتزيد من تعقيدات إدارتها.
لهذا يرى أنس الطائي (ناشط بيئي)، أن جميع المدن العراقية، تعاني من مشكلات التلوث بشكل عام، حيث تنتشر النفايات البلاستيكية غير القابلة للتحلل في المدن والأحياء السكنية وحتى المناطق الزراعية. وأشار في حديثه لـ"الصباح" إلى أن أطنانا من النفايات تُرمى بشكل مستمر دون وجود إمكانية لإعادة تدويرها، مما يؤدي إلى توسع رقعة التلوث مع امتداد الأحياء السكنية وزيادة مساحات البناء، مؤكدا خطورة هذه النفايات، التي تتسبب في حرائق المحاصيل الزراعية نتيجة انعكاس أشعة الشمس على الأواني البلاستيكية والمعدنية والزجاجية، مما يخلف خسائر اقتصادية كبيرة.
رئيس المهندسين اسماعيل لفتة المعموري (مدير بلدية اللطيفية) استعرض لـ(الصباح) أبرز التحديات والعقبات التي تواجه مدينته في ملف إدارة النفايات، معتبرا أن بعض المواطنين يساهمون في تفاقم المشكلة من خلال رمي النفايات بشكل عشوائي. وأوضح قائلاً: "ان كوادرنا تقوم يوميا بحملات مستمرة لرفع النفايات من الأحياء السكنية والشوارع الرئيسة والجزرات الوسطية باستخدام الكابسات، ليتم نقلها بعد ذلك إلى معمل فرز وتدوير النفايات. لكننا نواجه في الوقت نفسه قلة الوعي لدى بعض المواطنين الذين يرمون النفايات بجوار الحاويات المخصصة أو في الشوارع العامة، مما يتسبب في خسارة الوقت وزيادة ساعات العمل لرفعها".
وأضاف المعموري: "أما بالنسبة للمشاريع المستقبلية، فقد تم وضع خطة لعام 2025 تتضمن تسييج الساحات الفارغة التابعة للبلدية، وزراعة النباتات والأشجار الموسمية والدائمة، واستغلال المساحات الخضراء لإنشاء حدائق بهدف التخلص من النفايات. كما سيتم فرض غرامات على المخالفين الذين يتعمدون رمي الأنقاض في الشوارع الرئيسة، مما يشوه صورة مدينتنا التي نسعى جاهدين لإظهارها بشكل يليق بالفرد العراقي، وتحسين بيئته المعيشية".
وفي ظل التحدي المستمر، ظهرت تجربة معامل الفرز والتدوير في البلاد، للتقليل من حجم النفايات ومشاكلها، تحدث لـ(الصباح) رئيس مهندسين عادل علي محمد (مدير معمل فرز وإعادة تدوير النفايات العائد إلى مديرية بلدية المحمودية)، بالقول: "إن الجدوى من وجود معامل فرز وتدوير النفايات هو لتوفير بيئة مناسبة وصحية للمدن. كون هذه المعامل تستوعب نفايات المدن. ومن ثم فرز المواد القابلة للتدوير مثل الكارتون والبلاستيك بأنواعه والألمنيوم والحديد وعلب المشروبات الغازية والقناني الشفافة".
وأوضح، أن: "الغرض من إنشائه هو للحفاظ على سلامة المواطنين من انتشار الأمراض في حال تكدس وانتشار النفايات داخل المدن". مبينا "إن هذا المعمل هو الوحيد على مستوى بغداد. وبمساحة تبلغ 64 دونما، بطاقة استيعابية 200 طن في اليوم الواحد، إضافة إلى وجود معمل آخر يقع في شمال العراق".
وأكد محمد، في ختام حديثه على: "إن إنشاء هذه المعامل لها مردود اقتصادي من خلال بيع المواد المفرزة في المزايدة العلنية لتعظيم واردات البلدية، وكذلك تشغيل العاطلين عن العمل، والاستفادة من مخلفات الطعام في صناعة السماد العضوي الذي يدخل في مجال الزراعة. إضافة إلى أنها تساعد في التقليل من التلوث البيئي؛ من خلال طمر النفايات التي لا يمكن الاستفادة منها وفق الضوابط بوجود آليات ومكائن تخصصية، فضلا عن الاستفادة من الغازات المنبعثة من النفايات لتوليد الطاقة الكهربائية".
الى ذلك، وصف د. عمار العطا (مستشار في وزارة البيئة)، في حديثه لـ(الصباح)، ملف جمع النفايات بأنه "مشكلة كبيرة وحقيقية"، خاصة أن مدينة بغداد وحدها تفرز يوميًا أكثر من تسعة ملايين طن من النفايات. وأضاف: "هذه العملية لا تُدار بشكل صحيح، حيث يغيب الردع ويتم الطمر بشكل غير صحي، كما لا توجد ضوابط واضحة. هذا الكم الهائل من النفايات يولد مشكلات صحية طويلة المدى ناتجة عن حرق النفايات، الذي يفرز مواد كيميائية تسبب انبعاث غازات سامة وروائح كريهة، مما يعرض الأفراد للإصابة بأمراض تنفسية وقلبية وحتى سرطانية".
وشدد العطا على "الخطر البيئي الذي يتمثل في الرماد المتولد من بقايا الحرق، والذي يلوث التربة والمياه الجوفية، ويمكن أن ينتقل بفعل الهواء والعواصف الترابية إلى المناطق الزراعية القريبة، لينتقل بعد ذلك عبر المحاصيل إلى الإنسان عن طريق السلسلة الغذائية".
ويمضي بالقول: "هناك مشروع قانون موجود في مجلس شورى الدولة، يناقش إدارة النفايات والإدارة المتكاملة لها، والاستفادة منها بتحويلها إلى منتجات مفيدة. كما يتناول المفاهيم الحديثة، كون قوانيننا قديمة تعود إلى ستينيات القرن المنصرم، ولا تلائم التطور الحاصل والكثافة السكانية وتمدد المدن وغيرها. ونتأمل أن يرسل إلى مجلس النواب لتشريعه".
بخطى واضحة للعيان، تسير حكومة السيد السوداني، نحو تنفيذ مشاريع تنموية وكبيرة.. ولذلك أكد العطا، في ختام حديثه: "تنفيذ هذه المشاريع الكبيرة، ومنها تحويل النفايات إلى طاقة كهربائية. فالأول يقع في منطقة النهروان لتحويل 3000 طن من النفايات إلى طاقة بصورة يومية. والثاني بجانب الكرخ، بنفس السعة. فضلا عن التوجه لبناء مطامر نظامية في جميع المحافظات. وهذه تجارب ريادية مفيدة سيتم التخلص من النفايات من جهة، وتوليد الطاقة الكهربائية من جهة أخرى".
لم تغفل الجهات ذات العلاقة، وهي تسعى جاهدة في إيجاد طرق ووسائل بديلة وحديثة للتعامل مع هذا الملف، لا سيما أمانة بغداد، والتي قال المتحدث باسمها عدي الجنديل لـ(الصباح): "هناك مشاريع كبيرة تقوم بها أمانة بغداد في إدارة قطاع النفايات بدءا من مضاعفة وجبات العمل اليومية إلى أربع وجبات. وجمع النفايات وكبسها في حاويات تخصصية؛ ليتم بعد ذلك نقلها إلى أماكن الطمر الصحي، خارج حدود بغداد، وتحديدا في منطقتي النباعي والنهروان، ووفقا للمواصفات والمحددات البيئية".
وعن المشاريع الواعدة، التي تسعى الأمانة لتنفيذها، أضاف: "سيتم الاستفادة من هذه النفايات وعدم طمرها. وذلك بتحويلها إلى طاقة كهربائية وفق دراسات ومشاريع متطورة وحديثة في تحويل حرق النفايات بيئيا. وإن الأمانة ماضية في هذا المشروع عبر استملاك قطعتي أرض واحدة في النهروان والأخرى في أبو غريب، كونهما تقعان خارج حدود الأمانة، وضمن المحددات البيئية التي وضعتها وزارة البيئة".
وأشار الجنديل إلى أنه: "تم طرح المشروع إلى فرصة استثمارية عن طريق هيئة الاستثمار الوطنية. وبانتظار حصول إحدى الشركات الرصينة عليها. وعليه سنبدأ بتجربة أولى في حرق 3000 طن وتحويلها إلى طاقة كهربائية". مؤكدا في ختام حديثه: "مشاركة وزارات عدة وجهات قطاعية في إتمام هذا المشروع وإنجاحه، وهي وزارة الكهرباء وهيئة الاستثمار الوطنية، ومحافظة بغداد".
وتبقى هذه المشكلة قائمة، إذا ما تم تلافيها بتشريع قوانين حديثة تلائم التطور والحداثة، والتوسع العمراني في البلاد.. النائب مهدية اللامي (عضو لجنة الخدمات والإعمار النيابية)، تحدثت لـ(الصباح)، عن هذا الملف، قائلة: "إن مشكلة تفاقم أزمة النفايات في بغداد والمحافظات، تعد من التحديات الكبيرة التي تؤثر على صحة السكان والبيئة. وتراكمها في الشوارع والأحياء السكنية يعود إلى نقص في البنية التحتية وعدم وجود نظام فعال لفصل النفايات وإعادة تدويرها". مشيرة، إلى: "إن تعزيز البنية التحتية وتوفير وسائل نقل مناسبة لنقل النفايات يعد حلاً مهما. فضلا عن ضرورة تعزيز الوعي البيئي لدى السكان وتوفير برامج تثقيفية، واعتماد سياسات بيئية صارمة، تتلخص بتشجيع استخدام المواد القابلة لإعادة التدوير، إضافة إلى إدامة وتعزيز التعاون بين الحكومة والمجتمع المحلي اللذين يسهمان بتحقيق تحسن كبير في إدارة النفايات والحفاظ على نظافة المدينة".
وأضافت، اللامي: "إن البيانات والإحصائيات التي ترد إلى لجنتنا، تشير إلى واقع خطير تعاني منه العاصمة، وذلك بتراكم يومي من النفايات يقدر بنحو 10 آلاف طن، بالقرب من المناطق السكنية، مما جعلها إحدى المحافظات العراقية الرائدة في تسجيل معدلات التلوث في ظل زيادة بعدد سكانها، الذين يعيشون على مساحة تبلغ 4555 كم2، بأكثر من 9 ملايين نسمة، وتشير الإحصائيات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط إلى أن الكثافة السكانية فيها تصل إلى 1977.2 فرد/كم".
وأكدت اللامي، في ختام حديثها، على: "أن التعامل التقليدي مع ملف النفايات يتسم بتفاقم الأزمة، حيث يقدر إنتاج العراق للنفايات بحوالي 20 مليون طن سنويا، بمعدل يبلغ 1.5 كغم للفرد خلال عام 2023 على مستوى بغداد، ويقدر حجم الاستهلاك للنفايات بين 8 آلاف طن و 10 آلاف طن سنويا، ومع تزايد المعدل السكاني الذي يزيد من الاستهلاك في الأماكن العامة والخاصة. وفي هذا السياق، تظهر أهمية إيجاد حلول ناجعة، لإدارة النفايات بطرق حديثة تحقق التنمية المستدامة وتعود بالفائدة المالية على العراق. ولجنة الخدمات والإعمار عازمة ومصممة على تذليل الصعوبات تشريعيا، عبر إقرار أي قانون -حال وروده إلينا- يساهم ويحد من هذه المشكلة وتأثيراتها السلبية على صحة الإنسان وتعكير جودة حياته".