مقاتلو جيل الألفية.. حرب عصابات ضد الحكم العسكري
![...](/uploads/posts/2025-01/1446-07-28-16_25_46_2d06f219.jpg)
دانييل بيلوتشي
ترجمة: حميد ونيس
بالقرب من الحدود مع تايلاند، يرتفع الضباب ببطء بينما يتحرك القارب عبر مياه نهر "سالوين" المُوحلة في ميانمار، التي كانت تعرف سابقاً باسم بورما. على كلا الضفتين، ترتفع جدران خضراء من الأدغال، وتبدو السماء بلورية مزينة بغيوم رمادية منبئة عن وصول أمطار غزيرة من موسم الرياح الموسمية. يجلس مقاتلو المقاومة الشباب على جانبي القارب، يضبطون بنادقهم الهجومية ويراقبون الضباب من حولهم. تجوب أعينهم الغابة، ومع كل مرة يسمعون فيها صوتاً بعيداً، يطفئون محرك القارب للتأكد من أنه ليس صوتاً لطائرة "المجلس العسكري" الذي يحكم البلاد منذ انقلاب شباط 2021.
منذ العام 1962، كانت البلاد تخضع لحكم المجالس العسكرية، ولم تحتفل بانتخاباتها الحرة الأولى إلا خلال العام 2015، التي انتهت بفوز حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية"، وهو الحزب الذي تقوده الحائزة على جائزة نوبل للسلام، "أونغ سان سو تشي". وبين العام 2015 و2021، شهدت البلاد فترة قصيرة من الديمقراطية، أتاحت لأجيالها الشابة التواصل مع العالم الخارجي. وعندما ظهرت الدبابات في شوارع العاصمة مطلع شباط 2021 واستولى الجنرال مين أونغ هلاينغ على السلطة، انطلق الآلاف من الناس إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد؛ احتجاجاً على الانقلاب. وسعى الجيش لمنع التعديلات على دستور البلاد، الذي يعطي حق السيطرة على 25 بالمائة من مقاعد البرلمان للجيش للسيطرة على وزارات الداخلية والدفاع والحدود. وكان الانتصار الانتخابي في 8 تشرين الثاني 2020 قد منح "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" أغلبية كافية لإجراء هذا التغيير.
قوبلت الاحتجاجات المدنية بالقمع العنيف، لكن العديد من المتظاهرين ردوا بتنظيم أنفسهم. والآن، يقف مسلحو "قوة الدفاع الشعبي"، و"جيش حكومة الوحدة الوطنية" في المنفى، إلى جانب مجموعات عرقية تقاتل منذ العام 1948 من أجل الحكم الذاتي وحقوق الأقليات الأصلية، في ائتلاف واسع ضد الحكم الديكتاتوري العسكري للبلاد.
ظروف قاسية
بعد ساعات من الإبحار، يصل القارب إلى شاطئ صغير. تنظم وحدة حرب العصابات الكارينية نفسها بسرعة وتبدأ مسيرتها عبر الأدغال سيراً على الأقدام، وفي شاحنات، وعلى ظهور الفيلة، باتجاه "ديموسو"، معقل المتمردين. وتبدو كلٌّ من الرطوبة، والملاريا، والخوف من الكمائن، والجداول المائية التي يجب عبورها باستمرار، كلها واقعاً مرهقاً ولا مفر منه. لا يوجد وقت للراحة، لأن خطر اكتشافهم وقصفهم مرتفع. وتتوقف المسيرة فقط عند الغسق. فيعلق الجميع شبكات البعوض الخاصة بهم، ويفرشون الحصير الذي سينامون عليه، ويتم تعيين الحراس، وإشعال النيران لطهي الأرز.
وسط صوت الملاعق الخافت وهي تضرب علب الطعام، وجو الأحاديث المسترخية، ودخان السيجار ورائحة جوز التنبول، يكشف هؤلاء الثوار المتحمسين والمثابرين عن هوياتهم الحقيقية. إنهم جيل الألفية في ميانمار، وكذلك الشباب من أعمار أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، جعلتهم المواجهات المستمرة مع الموت ناضجين بما يكفي. فوجوههم شابَّة بلا لحى، ولكنهم يبتسمون تحت وهج الجمر المتوهج للطعام.
يقول "ثو را أونغ"، البالغ من العمر 21 عاماً، وهو من الكتيبة الثالثة التابعة لقوة الدفاع عن قوميات كاريني: "منذ الانقلاب، تغير كل شيء.. فقبل ذلك اليوم، كنت أكمل دراستي وأحلم بالالتحاق بالجامعة، وكحال جميع الشباب في ميانمار، كنت سعيداً لأنني شعرت أنني أخيراً بأني حرٌّ؛ ولأول مرة في تاريخ بلادنا. لكن تلك الأحلام تحطمت ولم يكن أمامنا خيار سوى حمل السلاح. فأما أن نفقد كل شيء أو نقاتل، لم تكن هناك بدائل". يرفع قميصه مشيراً إلى تاريخ موشوم على أضلاعه: العاشر من نيسان 2024، اليوم الذي قتل فيه شقيقه. "كان أيضا ثورياً. منذ اليوم الذي قتل فيه، لم أعد أعرف معنى السعادة."
ترتفع أغنية وسط الهدوء، يتردد صداها عبر الظلام. إنها أغنية شعبية تقليدية عن الحنين وألم البعد عن الأم. يغنيها الشباب معا بصوت واحد، ويواصل "أونغ" حديثه: "أن تكون ثورياً يعني أن تتخلى عن كل شيء؛ العائلة، الأصدقاء، الخطط… إنه أمر مؤلم، لكنه ضروري.. المجلس العسكري يرتكب جرائم لا توصف؛ يقصف المدارس، والمستشفيات، ومخيمات
اللاجئين".
هؤلاء المحاربون الشباب يستعدون للتوجه إلى جبهة "لوياكاو"، حيث تتقدم قوات المجلس العسكري فيما يفر المدنيون وسط أعمدة الدخان وأصوات الانفجارات. يقول باسكوار ليت، البالغ من العمر 21 عاماً، والذي يسافر مع 15 من رفاقه على ظهر شاحنة صغيرة: "لم يكن أمامنا خيار سوى خوض هذه الحرب، لكنها وحشية. لقد فقدت شقيقاً يبلغ من العمر 19 عاماً قتله الجيش، ولا تمر لحظة دون أن أفكر فيه، لكنني أفكر أيضاً في الجندي الذي قتله. منذ ذلك اليوم توقفت عن الضحك.”ويقدم باسكوا ليت اعترافاً أخيراً: "مع كل مرة أدخل فيها المعركة، أدعو الله أن يمنح والدتي القوة لتسامحني على الألم الذي سأسببه لها إذا مت".
اضرب واهرب
يقول الجنرال "ماوي"، القائد العسكري البالغ من العمر 31 عاماً ضمن قوة الدفاع عن قوميات "كاريني:" "في القرية، تستمر المعارك من منزل إلى آخر، وصوت صفير الرصاص يتردد عبر الأشجار والتقاطعات، بينما تهز قذائف كبيرة عيار 120 ملم وصواريخ "غراد" جدران المنازل. ويضيف الجنرال: "نحتاج للانسحاب الاستراتيجي، ودفعهم إلى التقدم، واستدراجهم إلى حقول الأرز، وبمجرد أن تتم محاصرتهم في المستنقع، نهاجمهم بوحدات صغيرة من جميع الجهات".
هذه هي حرب العصابات؛ اضرب واهرب، استغل التضاريس لصالحك، وهاجم العدو حيث يكون أكثر ضعفاً. يشرح الجنرال ماوي الاستراتيجية لطاقمه، ثم ينسق شخصياً انسحاب رجاله. بحلول الليل، ووسط معسكر قريب من "ديموسو"، يعلن الجنرال: "بدون أسلحة كافية لهجوم مباشر، فإن التكتيكات والذكاء هما كل شيء لحسم هذا الصراع، فيجب أن نضمن أن الجيش يطاردنا ويقع في فخنا".
ويحمل ماوي شهادة الجيولوجيا، ودرس خارج البلاد عدة مرات، وعمل مهندساً زراعياً، لكن كل ذلك أصبح من الماضي. يقول: "نحن نقاتل من أجل بلد يحترم الأقليات الأصلية، حيث يكون نظام الحكم ديمقراطياً اتحادياً، وتكون شعاراته العدالة والسلام والعمل.. نحن لا نقاتل من أجل علم؛ لا نريد النموذج الأميركي أو الأوروبي أو الصيني؛ نريد أن نعيش في سلام وانسجام في أرضنا". وقبل مغادرته، يضيف: "شيء واحد أنا متأكد منه: في النهاية، سننتصر. ليس لدينا خيار بديل؛ فإذا خسرنا، فلن أتمنى الجحيم الذي سنراه بأنفسنا حتى لأسوأ أعدائي".
أدى الصراع إلى مقتل أكثر من خمسة آلاف شخص، وفقاً للأمم المتحدة، وتشريد ثلاثة ملايين شخص داخلياً. بالإضافة إلى ذلك، هناك 18 مليون إنسان بحاجة لمساعدات إنسانية فورية. وتسيطر المقاومة على ما يقل قليلاً عن نصف البلاد، حيث يتمتع المتمردون، رغم افتقارهم للذخيرة الكافية والمعدات المضادة للطائرات، بدعم كبير من السكان الذين يعانون من قصف قوات "هلاينغ". ووفقاً لإحصائيات إذاعة آسيا الحرة، تم قصف ما يقرب من 200 مدرسة، وتعرض أكثر من 300 مستشفى وعيادة للهجمات، بالإضافة إلى عدد غير محدد من الغارات الجوية على مخيمات اللاجئين. على بعد أكثر من ستة أميال بقليل من جبهة لوياكاو تقع ديموسو، ثاني أكبر مدينة في المنطقة. اليوم، تأوي المدينة أكثر من 150 ألف شخص، أي أكثر من نصف سكان المنطقة، الذين جاءوا بحثاً عن ملجأ بعد أن سيطرت قوات المتمردين عليها في تشرين الثاني 2023. دفعت المعارك المستعرة في "كاياه" معظم سكانها إلى ترك منازلهم واللجوء إلى المدينة التي يعتبرونها محررة.
مدينة محررة
ديموسو مكان يتميز بجمال نادر، حيث يبدو كل شيء فيها وكأنه خارج إطار الزمن، من المعابد ذات القباب البيضاء متعددة الطبقات إلى حقول الأرز، حيث يعمل الرجال والنساء وهم يغطون رؤوسهم بالقبعات التقليدية المخروطية، وصولاً إلى الجبال الخضراء والذهبية التي بنى فيها أطفالهم ملاجئ وحفروا خنادق. ولكن الحقيقة المأساوية لديموسو تكمن في ما هو أبعد مما تراه العين، ولا تتضح مآسي الصراع بالكامل إلا عند دخول المدينة.
يقول ناي لين أونغ، معلم الرياضيات البالغ من العمر 26 عاماً: "عندما وصلت إلى المدرسة، أخبرني الأطفال أن هناك طائرات تحلق باستمرار فوق رؤوسنا. ركضت خارج الصف لأرى إلى أين تتجه، وعندما نظرت فوقي، أدركت أن طائرة نفاثة كانت قادمة مباشرة نحونا". وفي صباح الخامس من شباط 2024، كان في الصف عندما تعرضت مدرسة "داو سي إي" لقصف جوي. يعلق المعلم: "جمعت كل الأطفال وركضنا إلى الملجأ، وخلال وقت قصير، وقع الانفجار".
وبعد ستة أشهر من القصف، يتخطى أونج عبر أنقاض المدرسة، ويتردد صدى خطواته بين الصفوف المدرسية الخالية، وينظر إلى السبورة التي تناثرت عليها الشظايا ورحلات طلابه المحطمة، ويلتقط من الأرض علبة أقلام متفحمة ودفاتر متروكة. ويقول: "عندما توقف القصف، أسرعت إلى المدرسة للتأكد من عدم إصابة أحد بأذى، لكنني وجدت جثث أربعة من طلابي بلا حراك ومشوهة. ومنذ ذلك اليوم، أعيش كابوساً لا يمنحني السلام، وما زلت أسمع صراخ طلابي". وكل ما تبقى هو صورة للصف الدراسي تظهر أطفالاً مبتسمين يقفون أمام الكاميرا، لتذكيرنا بما كانت عليه الحياة قبل الانفجار.
مستشفى بسيط
"معظم الجرحى الذين يأتون إلى هنا هم ضحايا الألغام الأرضية، والقذائف المدفعية أو القصف الشديد. ولغرض إنقاذهم، علينا أن نجري لهم بترا للأطراف لدينا عدد قليل جداً من الأدوات والأدوية، لذلك ليس لدينا خيار.. يجب علينا بتر الطرف لإنقاذ الجريح". هذا ما يقوله سوي كا ناينغ، (31 عاماً)؛ الطبيب الذي يدير المستشفى الوحيد في ديموسو، حيث يختبئ عميقاً في الغابة. عندما اندلع الانقلاب، ترك الطبيب يانغون وجاء إلى "كاياه" عبر طرق سرية لينقذ
الجرحى.
ويقول الطبيب: "بمجرد حدوث الانقلاب ضد الديمقراطية، شاركت مع الناس أعمالهم الدفاعية في يانغون. ثم قررت القدوم إلى هنا، لدعم رفاقي والشعب الذي يعيش في هذه المنطقة المنكوبة بالحرب". ويضيف أن المستشفى يتكون من سلسلة من الأكواخ المحمية بواسطة فروع الأشجار التي تخفيها عن مراقبة السلطة العسكرية. داخل المستشفى، يحيط بالرجال والنساء والأطفال الدماء، والضمادات، والأنابيب. لا يصرخون أو ييأسون، بل يستسلمون لألمهم في صمت. ويتحدث الطبيب ناينغ عن مزارع يدعى صموئيل كان عائداً من الحقول عندما داس على لغم أرضي، فقد بسببه ساقه وبصره. هناك مقاتل آخر يدعى أوليفر، كان ضمن الخطوط الأمامية في "بيكون" عندما تعرضت وحدته للقصف، فتشوه وجهه جرَّاء الشظايا واضطر الأطباء لبتر ساقه اليمنى أسفل الركبة. كان هناك أيضاً "مو شوي يي" إذ كان يقوم بتدليك الساق المبتورة لابنه الذي يرتدي قميص منتخب الأرجنتين. فقد كان يحلم أن يصبح لاعب كرة قدم. يقول ناينغ: “القوات الرسمية تحرق المزارع، وتقتل العائلات، وتنهب وتغتصب، وهذا الوضع مستمر منذ 50 عاماً في ولاية كاريني (كاياه)".
عندما ينتهي اليوم، يخلع الجنرال ماوي البيرية من رأسه، وكذلك لباسه العسكري وينسى توتر الجبهة، ويضع سلاحه أم-16 جانبا، ثم يأخذ غيتاره. وبرفقة رفاقه، يغني أغنية، جميلة كتنهيدة وهي أغنية أصيلة مثل يوتوبيا الحالمين. "أحياناً أغرق في دموعي، لكنني لا أسمح لها بأن تحبطني، لذا عندما تحيط بي السلبية، أعلم أنه يوماً ما، سيتغير كل شيء لأنني طوال حياتي، كنت آمل وأدعو، أن يقول الناس إنهم لا يريدون القتال بعد الآن، وأنه لن تكون هناك حروب أخرى، وأن أطفالنا سيلعبون: يوماً ما...."
المصدر: صحيفة إلباييس الإسبانية