كتب التنميَّة البشريَّة.. تمريناتٌ لمسخ العقول

ثقافة 2025/01/29
...

صفاء ذياب






في تقريرٍ لها، كشفت مؤسسة غالوب أنَّ عدم إحساس الموظفين بالسعادة يكّلف اقتصاد الولايات المتحدة الأميركيَّة 500 مليون دولار سنوياً! لذلك تمَّ تحويل البشر إلى سلعٍ يُعمل على تحسين إنتاجيتها تحت شعار زائف عنوانه (التنمية البشريَّة).

وأكّدت غالوب- وهي شركة أميركيَّة للبحث والاستشارات، تركّز على دراسة الرأي العام والتنمية البشريَّة. تأسست في العام 1935 من قبل جورج غالوب. تشتهر المؤسسة بدراساتها حول: الرضا الوظيفي والتعليم، الصحة النفسيَّة والجسديَّة، التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، الثقة في المؤسسات الحكوميَّة والخاصة، والتوجهات السياسيَّة والدينيَّة- أنَّ ما يُعرف بكتب التنمية البشريَّة تمكّنت من أن تكون بديلاً للكتب الدينيَّة التي يسعى قرّاؤها للوصول إلى السعادة النفسيَّة، باعتمادهم على قوى عليا.

وهكذا، شكّلت كتب التنمية البشريَّة بديلاً جديداً عن الكتب الدينيَّة، وسنناقش نقاط التشابه والاختلاف بين النوعين من الكتب لاحقاً.



ما التنمية البشريَّة؟

قبل أن نخوض في معرفة كتب التنمية البشريَّة، علينا الوقوف أولاً في التسميَّة نفسها، وما هذا المصطلح، فالتنمية البشريَّة هي عمليَّة تحسين الجودة العامة للحياة البشريَّة من خلال تعزيز العوامل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والبيئيَّة. وتشمل: العوامل الرئيسة التي تتمثّل بـ: التعليم: تعزيز المعرفة والمهارات، الصحة: تحسين الرعايَّة الصحيَّة والصحة العامة، الاقتصاد: تعزيز فرص العمل والتنمية الاقتصاديَّة، الثقافة: الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز التعبير الثقافي، البيئة: الحفاظ على الموارد الطبيعيَّة والبيئة.

وتهدف التنمية البشريَّة إلى: تحسين جودة الحياة، تعزيز فرص العمل، الحفاظ على البيئة، تعزيز التماسك الاجتماعي، وتعزيز حقوق الإنسان. ومثالاً على الدول التي اهتمت بالتنمية البشريَّة بشكل الفعّال لنأخذ سنغافورة: التي تحولت من دولة نامية إلى دولة متقدمة، وكندا: من خلال تعزيز التنمية البشريَّة من خلال السياسات الاجتماعيَّة، والسويد: بتحقيق التماسك الاجتماعي والتنمية المستدامة، ونيوزيلندا: بتعزيز حقوق الإنسان والتنمية البشريَّة.

لكنَّ ما سعت إليه التنمية البشريَّة، كسياسة للدول تختلف تماماً عمّا أرادته كتب التنمية البشريَّة، على الرغم من تشابه المسميات. وبعودة بسيطة إلى المراحل الأولى لمفاهيم هذه الكتب، فسنعود بالزمن إلى الوراء لقرونٍ قليلة في أوروبا، من خلال توّجه الناس إلى الكهنة؛ للإجابة عن أسئلتهم العميقة في الحياة ولطلب التحفيز والتوجيه نحو تحسين حياتهم، ومع طغيان النزعة الفرديَّة والاتجاه نحو النجاحات الشخصيَّة، بات الطريق ممهدّاً لكتب التنمية البشريَّة لتصبح إلهاً جديداً محل إله الكنيسة. وهكذا على مرِّ الأعوام، أصبحت عبارة مثل (كن أنت التغيير الذي تريده للعالم) شعاراً مخفّزاً وغاية يحيى الكثير من أجلها. فهل كتب تطوير الذات والوصول إلى السعادة قدّمها إلينا المجتمع الغربي عملاً خيرياً... أو أنَّ هناك سراً خطيراً تخفيه تلك الكتب؟

وبالفعل سنجد تشابهاً كبيراً بين الكهنة وكتب التنمية البشريَّة، لكن الاختلاف بينهما واضح:

التنمية البشريَّة والدين

ربّما نجد تشابهاً واضحاً في الأهداف التي يسعى إليها الدين من خلال رجاله، كتب التنمية البشريَّة، وهذا التشابه والاختلاف أيضاً ينطلق من النقاط التالية:

- كتب التنمية البشريَّة: تهدف إلى تطوير المهارات الشخصيَّة، تعزيز الثقة بالنفس، تحسين الإنتاجيَّة، وإكساب القارئ أدواتٍ لتحقيق النجاح في الحياة العمليَّة والشخصيَّة. تركّز على تحقيق الأهداف الدنيويَّة.  وكتب الدين: تهدف إلى تعليم المبادئ والقيم الدينيَّة، وتعزيز الإيمان، وتوضيح العبادات، والأخلاق، وتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان والآخرين. تركيزها يشمل الدنيا والآخرة.

- كتب التنمية البشريَّة: تعتمد على النظريات النفسيَّة والاجتماعيَّة الحديثة، الأمثلة الواقعيَّة، وتجارب الحياة. تهتم بموضوعات مثل القيادة، إدارة الوقت، التفكير الإيجابي، وتحقيق الذات. وكتب الدين: تعتمد على النصوص الدينيَّة (مثل القرآن الكريم والحديث الشريف) والتفسيرات الدينيَّة، وتتناول العقيدة، الفقه، السيرة النبويَّة، الأخلاق، والروحانيات.

- كتب التنمية البشريَّة: غالباً ما تكون عمليَّة وعلميَّة، تعتمد على تمارين، أمثلة حياتيَّة، وأحياناً أبحاث علميَّة. تسعى لتقديم حلول تطبيقيَّة يمكن قياس نتائجها. وكتب الدين: منهجيتها روحانيَّة وتعليميَّة، تعتمد على التأمل، التربية الإيمانيَّة، والتوجيه الديني. غالباً تكون موجهة لتحقيق الانسجام بين الدنيا والآخرة.

- كتب التنمية البشريَّة: تركز على تحسين حياة الإنسان في الوقت الحالي والمستقبل القريب، مع التركيز على النجاح الشخصي. وكتب الدين: تهدف إلى توجيه الإنسان في حياته الدنيا بما يحقّق له السعادة الأبديَّة في الآخرة.

- كتب التنمية البشريَّة: مرجعيتها تكون بشريَّة وعلميَّة، تعتمد على خبرات وتوصيات مؤلفيها. وكتب الدين: مرجعيتها النصوص الدينيَّة المقدسة وأقوال العلماء والفقهاء.

- كتب التنمية البشريَّة: تستهدف الأشخاص كلّهم بغضِّ النظر عن خلفياتهم الدينيَّة أو الثقافيَّة. وكتب الدين: تستهدف أتباع الديانة التي تنتمي إليها تلك الكتب.

- كتب التنمية البشريَّة: تسعى لإكساب القارئ مهارات محدّدة لتحقيق النجاح الذاتي والمهني. كتب الدين: تسعى لتربية القارئ روحياً وأخلاقياً بما يتفق مع تعاليم الدين.

وبالرغم من هذه الفروقات، هناك تداخلٌ في بعض الأحيان، حيث قد تستلهم كتب التنمية البشريَّة بعض المبادئ الأخلاقيَّة أو الروحانيَّة من الدين، وقد تشير كتب الدين إلى أهمّيَّة التطوير الذاتي كجزء من حياة المؤمن.

وعلى الرغم من الحديث الدائم عن أضرار كتب التنمية البشريَّة، التي سنأتي عليها لاحقاً، غير أنَّ هذه الأضرار لا تختلف كثيراً عن الكثير من كتب الدين التي تسعى لإلغاء عقل المؤمن بها، من أجل السيطرة الكاملة عليه، وربّما يكمن الفارق هو أنَّ كتب التنمية البشريَّة تهدف إلى زيادة المبيعات ومن ثمَّ أرباح المؤلفين ودور النشر. وهذا الفارق جذري بين النوعين من الكتب.

ويشير الباحث أمين الزاوي إلى تشابهٍ آخر، مبيناً أنَّ حيثما كان الجهل مستفحلاً نَشِط دجلُ ميليشيات “التنمية البشريَّة” وترعرع، إنَّ من يتابع واقع المجتمعات العربيَّة والمغاربيَّة، وبالأساس في العقدين الماضيين، يكتشف وجود هذه الظاهرة الغريبة الطاغيَّة على المجتمع الثقافي والإعلامي، وهي ما اصطلح على تسميته دورات “تدريب في التنمية البشريَّة”. وهي عبارة عن “كذبة كبيرة” صدّقتها العامة من المواطنين البسطاء وخصوصاً الشباب، وعلى وجه الخصوص الفتيات، وما أكثرهن، ومن مختلف الأعمار، وهي الفئات التي تعاني هشاشة اجتماعيَّة أو فكريَّة أو سياسيَّة أو نفسيَّة، في مجتمعات تغيب فيها الصحة الفكريَّة والثقافيَّة والفنيَّة وتحارب فيها الأفكار والفلسفات الجديدة التي تفتح المواطن على سؤال العصر وعلى علاقة الأنا بالآخر.

للتأثير في الشباب الضائع، شباب من دون بوصلة فكريَّة، من دون أحلام إيجابيَّة، تستعين جحافل “خبراء” التنمية البشريَّة بممارسات بعض الأنظمة السياسيَّة العربيَّة والمغاربيَّة التي تريد تكريس الجهل و”الاتكال” و”المكتوب”، فكل طرف له مصلحة في الآخر. والنتيجة في النهاية الإبقاء على مواطن مسلوب الإرادة، غير قادر على المبادرة الفرديَّة والجماعيَّة لمواجهة وضعه بشكل نقدي عميق. بالتالي، التمكّن من التحكّم في مصيره بسهولة.

إذن، هناك تحالف استراتيجي علني أو مستتر ما بين الأنظمة السياسيَّة وقادة دجل “التنمية البشريَّة” من أجل سلب المواطن وعيه وتجفيف منابع الإبداع فيه والحجر عليه في دائرة الاستسلام و”الحاجة”.

ويضيف الزاوي: ويعتمد خطاب ميليشيات التنمية البشريَّة على ترسانة من المفاهيم الغامضة، والمقصودة في غموضها، كي يثير انتباه المواطن الضائع وإبهاره والإيحاء له بأنَّ ما يتمُّ قوله أو التصريح به هو من “باب العلم الكبير” الذي لا علم للمواطن البسيط بمغاليقه، مفاهيم مغلوطة ومخلوطة توحي للمستمع ذي الثقافة البسيطة، الذي يعيش حالة نفسيَّة مهزوزة، بأنَّ ما يملأ به عقله هو “عدّة علميَّة” قادرة على “تطوير مهاراته”.

ولجذب انتباه المواطن البسيط الضائع عند مفارق طرق مجتمع عربي ومغاربي تتنازعه “السياسة” و”الدين السياسي” و”الدين الدجلي” و”القمع ومصادرة الحريات” و”قمع الاجتهاد” و”الفساد”، تتحرك عصابات التنمية البشريَّة بحسب استراتيجيَّة “خطاب مُتَعَلْمِن” (يدعي العلم) يقوم على خليط غير متجانس من المصطلحات الموظفة خارج سياقها المفاهيمي، مصطلحات من علم النفس السريري لاستمالة المواطنين الذين يعانون من هشاشة نفسيَّة، ببنية سايكولوجيَّة منهارة.

يستثمرون أيضاً في “الخطاب الديني” الفقهي والتشريعي. فمن وجهة نظرهم، يعدُّ الرسول هو مؤسس علم التنمية البشريَّة! وبما أنَّ الإنسان العربي والمغاربي هو ديني في أساسه التكويني الفكري والسياسي والثقافي والاجتماعي، تعمد زمرة التنمية البشريَّة في دوراتهم التدريبيَّة على حزمة من الأحاديث النبويَّة والآيات القرآنيَّة وإخراجها عن سياقها الإبستيمي والتاريخي والعقدي كي يتم تكبيل السامع المتدرب بالمقدس.

أكاذيب التنمية البشريَّة

من جهته يقدّم الكاتب أحمد عزمي 10 أكاذيب تحاول التنمية البشريَّة إقناعك الشباب بها، موضحاً أنَّ الشركات تستثمر الملايين في ندوات تحفيزيَّة ومحاضرات لخبراء التنمية البشريَّة وتطوير الذات، ومئات من الكتب تحمل عناوين مثيرة حول أسباب السعادة وقوّة التأثير على الآخرين، وخفايا العقل الباطن ومفاتيح الثروة، لكنَّ العديد من الخبراء وعلماء النفس يؤكدون أنَّ الكثير من استراتيجيات التنمية البشريَّة عديمة الجدوى تماماً، وقد يكون أثرها مدمّراً، فهي، في رأيهم، ليست نصائح للتنمية البشريَّة بقدر ما هي مجموعة منمّقة من الأكاذيب، وهذه الأكاذيب:

- التفاؤل يحفزكم على النجاح.

- الثناء يدفعنا إلى الأمام

- المال لا يشكل حافزاً على النجاح

- لا تستسلموا أبداً

- ركّزوا على الأهداف الكبيرة

- الاستمتاع في العمل سر النجاح

- تجنبوا الصراعات

- ابتعدوا عن الإجهاد والضغوط

- الثقة بالنفس سر النجاح

- التركيز الشديد يصنع المعجزات

وبالتالي، ستقدّم الأكاذيب السلبيات الحقيقيَّة لما يعرف بالتنمية البشريَّة، فعلى الرغم من أنَّ كتب التنمية البشريَّة قد تكون مفيدة لبعض الأشخاص، إلَّا أنها قد تحمل بعض الجوانب السلبيَّة أو الأضرار، لاسيّما إذا تمَّ استهلاكها من دون نقد أو تحليل. ومن هذه السلبيات:

1. تقديم وعود غير واقعيَّة: بعض كتب التنمية البشريَّة تَعِدُ بتحقيق النجاح السريع أو السعادة المطلقة، ممَّا قد يؤدّي إلى إحباط القراء عندما لا تتحقّق هذه الوعود. ومن ثمَّ التركيز المفرط على التفاؤل قد يغفل تعقيدات الواقع والظروف المحيطة.

2. الاعتماد المفرط على التحفيز: كثير من كتب التنمية البشريَّة تقدّم محتوى تحفيزياً مؤقتاً من دون خطوات عمليَّة واضحة. وقد يشعر الشخص بالإلهام للحظات، لكنَّه يفتقر إلى الأدوات الحقيقيَّة لتحقيق التغيير.

3. الترويج لنظريات غير مثبتة علمياً: بعض هذه الكتب تعتمد على معلومات ونظريات غير علميَّة أو غير مدعومة بالأبحاث. وهذا قد يؤدي إلى تقديم نصائح غير فعّالة أو حتَّى ضارة.

4. إلقاء اللوم على الفرد: تروّج بعض كتب التنمية البشريَّة لفكرة أنَّ الفشل دائماً نتيجة تقصير شخصي، متجاهلة العوامل الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة أو البيئيَّة. وهذا قد يؤدّي إلى شعور القارئ بالذنب أو التقصير المفرط.

5. الاستهلاك التجاري: بعض الكتب تُكتب بغرض الربح فقط من دون تقديم محتوى ذي قيمة، والتركيز على تسويق الكتب بدلاً من تقديم نصائح حقيقيَّة أو أدوات فعّالة.

6. الإفراط في الفرديَّة: تركّز معظم كتب التنمية البشريَّة على تحقيق النجاح الفردي، ممَّا قد يؤدي إلى تقليل أهميَّة التعاون والمجتمع، وتعزيز فكرة أنَّ السعادة تعتمد فقط على الإنجازات الشخصيَّة.

7. إغفال القيم الروحانيَّة أو الأخلاقيَّة: بعض الكتب تهتم فقط بالنجاح المادي أو المهني من دون الانتباه للقيم الأخلاقيَّة أو الروحيَّة. وقد يؤدّي ذلك إلى دفع الأفراد للسعي وراء أهدافهم بأيَّة وسيلة، بغض النظر عن التأثيرات السلبيَّة.

8. عدم ملاءمة المحتوى للجميع: ليست كتب التنمية البشريَّة مناسبة كلّها للقرّاء جميعاً؛ فالبعض قد يجد صعوبة في تطبيق النصائح بسبب اختلاف الظروف أو الثقافات، وتجاهل السياقات الاجتماعيَّة أو الثقافيَّة قد يجعل النصائح غير مجديَّة.

9. تكرار المحتوى: العديد من كتب التنمية البشريَّة تقدم أفكاراً متشابهة بطرق مختلفة، ممَّا يجعل القارئ يشعر بعدم وجود شيء جديد.

10. الاعتماد على المؤلف: بعض المؤلفين يروّجون لفكرة أنَّ نجاح القارئ يعتمد على شراء مزيد من كتبهم أو حضور دوراتهم، ممَّا يخلق علاقة اعتماد غير صحيَّة.

وبالتالي، فإنَّ كتب التنمية البشريَّة قد تكون مفيدة إذا قُرئت بوعي نقدي وتم اختيارها بعنايَّة. ومع ذلك، يجب على القارئ أن يوازن بين النصائح المقدمة والواقع العملي، وأن يختار الكتب التي تعتمد على أسس علميَّة ومناسبة لظروفه.

وربّما هناك بدائل كثيرة لما يعرف بكتب التنمية البشريَّة، والبحث عن نماذج أخرى من خلال القراءة الناقدة: قراءة الكتب بانتقاد وتمحيص. والبحث عن مصادر متعددة: البحث عن مصادر متعددة لتحقق المعلومات. والتفكير النقدي: التفكير النقدي في الأفكار المقدمة. الاستشارة: الاستشارة مع خبراء في المجال. وأخيراً التوجيه من قبل متخصصين في التنمية البشريَّة.