رمح الكلمات الكاتب السومري

ثقافة 2025/01/29
...





جيرالد جاك ستار وريان مورهين


ترجمة واعداد: مي اسماعيل




يقول كاتب المقال: “خلال المعاناة الطويلة التي أمُرّ بها وأنا أقوم بترجمة الألواح المسماريَّة السومريَّة؛ والتي يتضمن بعضها ما يشبه الأحاجي أو الأشعار الساخرة؛ كثيراً ما سألتُ نفسي عمّن كتب تلك النصوص؛ ولم أكن أشعر نحو الكاتب بالكثير من المودة أحياناً..! ووجدتُ نفسي يوماً أصرخ مخاطباً الكاتب: “ألم يكن باستطاعتك أنْ تكون أكثر وضوحاً؟.. إنك تدفعني للجنون..!” ولكي لا يظن القُراء بعقلي الظنون؛ فإنَّ الكاتب لم يُجبني يوماً، وكان عليَّ دوماً أنْ أتساءل عن شخصيَّة مثل ذلك الكاتب..”.

“.. لم أجد توقيع الكاتب على بعض الألواح التي درستُها؛ (ومنها- اللوح رقم 36 الذي ضمَّ نوعاً من الألغاز الساخرة)؛ لذا سأُشير إليه بـــ”الكاتب”؛ وهو أمرٌ قد لا يكون ملائماً أحياناً.. في هذه الصفحات سأستخدم الاسم الذي اخترتُه له: “اينيم شوكور- Inim Shukur”؛ والقصد منه أنْ يبدو كنسخة سومريَّة من اسم “ويليام شكسبير”، ولكنه يعني حرفياً: “رمح الكلمات-  Word Spear”.. وهو وصفٌ يُعبر عن شخصه وعمله.. تلك السخرية الثاقبة التي كَتَبَ بها قَتَلَتْ “الثور الكبير البدين” (= من محتويات اللوح رقم 36. المترجمة).. نعم؛ هناك فعلا أشخاص سومريون حملوا اسم “اينيم” (ويعني الكلمة)، مع انني أدعوه أحيانا بوصف.. “صديقي””. 

ويمضي كاتب المقال: “تدبرتُ أحيانا احتمالية ألا يكون “شوكور” كاتباً على الإطلاق؛ إذ لم يكن كل من يستطيع الكتابة حينها يعمل كاتباً بدوامٍ كامل. وكان بعض الكتبة ببساطة تجاراً يحتاجون للكتابة لمتابعة تعاملاتهم التجاريَّة وجرد ممتلكاتهم. لكنَّ اللغة التي كُتِبَ بها اللوح رقم 36 (عن “الثور الكبير البدين”) كانت منمقة ومتمرسة بما فيه الكفاية لتنفي احتمال أنْ يكون كاتبها شخصاً كانت له دراية عرضيَّة فقط بتعقيدات الكتابة المسماريَّة وسردياتها. كما أن القصة كانت “أدبيَّة” للغاية بحيث لا يمكن أنْ يكتبها رجل أعمال أو ما شابه.. هنا لم يكن لديَّ شكٌ أن كاتب قصة “الثور الكبير البدين” كان “صانع كلماتٍ” متمرس..”

شخصيَّة مرموقة

اليوم قد نُطلق كلمة “الكاتب” على العاملين في الوظائف المكتبيَّة البسيطة؛ لذا قد يكون من المُفاجئ أنْ نعرف بأنَّ “شوكور” كان بلا ريب من أفراد النخبة الاجتماعيَّة.. في سومر كان الكاتب واحداً من بضعة أشخاص في المدينة أو القرية (أو ربما العالم؛ على حد القول حينها..) الذين يستطيعون القراءة والكتابة، وشخصاً محورياً لإدارة المصالح والاعمال والدين والدولة والمجتمع.. لقد كان الكاتب في المجتمع السومري شخصاً ذا أهميَّة ومكانة كبيرة..” 

في دراسة أُجريت مؤخراً على الاختام الاسطوانيَّة (وهي “التوقيع” الرسمي للكتبة)؛ كان هؤلاء يُعرّفون عن أنفسهم عادة بالاسلوب التالي: “ لوغال- إي- بان شا/ كاتب/ ابن أور- عشتاران..”. ومن بين الكتبة الذين أمكن تتبُّع أنسابهم؛ كان نحو سبعين بالمئة منهم أبناء نبلاء معروفين، ومسؤولي المعبد الكبار، وتجاراً أثرياء. وهذا ليس بالأمر المفاجئ على الإطلاق؛ إذ إنَّ سنواتٍ من التدريب في مدرسة الكتابة والنسخ كانت مُكلفة للغاية، ولا يتحمل تكاليفها سوى الأغنياء.. فإذا كان “شوكور” إبن احد التجار الأثرياء؛ فقد أصبح كاتباً على الأغلب للمساعدة في أعمال العائلة. كما يُمكن أنْ يُعيّن الكاتب للعمل في المعبد لتسجيل التبرعات (من خراف وماشية وحبوب) التي يُقدمها الناس للآلهة. ولعله كان جزءاً من النظام القضائي؛ ليُسجل نتائج المحاكمات، أو معلماً في إحدى مدارس الكتابة العديدة. وقد ينخرط الكاتب في خدمة مسؤولٍ كبير؛ كما كان “لوغال- إي- بان- شا” كاتباً لدى حاكم “أوما-Umma”. وكان للكاتب (إضافة لواجباته الرسميَّة) وظائف متنوعة ضمن المجتمع؛ منها على سبيل المثال: قراءة وكتابة الرسائل للناس، وهو أمرٌ جيدٌ لكسب بعض المال الإضافي.. ذلك هو نمط الأعمال التي كان يزاولها الكاتب لكسب العيش؛ وبذا لم يكن لديه فائضٌ من الوقت للجلوس وكتابة النصوص الأدبيَّة العظيمة..! كل ما كان يدور في المدينة أو القرية كان لا بُدّ أن تجري قراءته أو تدوينه على يدي الكاتب. وهذا على الأقل يوفر للكاتب حياة مستقرة؛ فمن غير المُرجّح أن يشعر كاتبٌ بالجوع لقلة فرص الرزق.. ويمكن القول إنَّ الكاتب حينها كان ميسور الحال، إنْ لم يكن ثرياً؛ قادراً على توفير مستوى جيدٍ للعيش لنفسه وأسرته من دون الحاجة للعمل الشاق أو خطر التعرض الدائم للجوع؛ كما كان مصير أغلب الناس في العالم القديم. ولم تكن ثمة حدود لمستقبل الكاتب؛ فقد يصبح من أفراد بلاط الملك، ليقرأ ويكتب المراسلات الملكيَّة. 

التصنيف الاجتماعي

كان الكاتب شخصاً ذا أهميَّة كبيرة في المجتمع السومري، وهذا ما يظهر في طبعة أحد الأختام الاسطوانيَّة لكاتب سومري. مثل تلك الأختام الدقيقة كانت غالية الثمن، وتكشف عن المنزلة الرفيعة لصاحبها.. كان ذلك الكاتب أحد أفراد بلاط الملك “شو- سوين”؛ وهو الذي يبدو جالساً على عرشه (في طبعة الختم). جرى تصوير الملك (مرتدياً قُبعة الراعي) هنا كالإله الحي. أما الآلهة- الأنثى (مرتدية خوذة ذات قرون) فهي التي تُرشِد الكاتب الى حضرة الملك، رافعةً ذراعيها في وضعيَّة “التبجيل”.. يُقدم الملك للكاتب (رمزياً) كأساً من النبيذ؛ وهو تكريم استثنائي من الملك- الاله. هنا لا نرى الكاتب يرفع ذراعيه تبجيلاً للملك؛ كما تفعل الآلهة الأنثى التي تُرافقه؛ مما يبدو غريباً أنَّ الآلهة تُقدّم التبجيل للملك بينما لا يفعل بشرٌ فانٍ كذلك.. هذا يطرح نظريَّة أنَّ الكاتب كان فرداً من طبقة النبلاء العليا، أو حتى من الأسرة المالكة ذاتها.. وإذا كان الأمر كذلك فإنَّ الكاتب (أو والده) قد تصاهر مع تلك الطبقة بدلاً من أن يولد فيها؛ والدليل ما جاء في الختم: “شو- سون/ الملك العظيم/ ملك سومر/ ملك الجهات الأربع [ملك العالم]/ أور- كونونا/ الكاتب/ ابن لو- نينجيرسو، كوروشدا/ خادمك”. تعني كلمة كوروشدا: الشخص الذي يُدير حظيرة كبيرة للماشية حيث يجري تسمين الحيوانات (الأغنام، الأبقار، الخنازير، وغيرها) قبل إرسالها إلى السوق؛ وهي مهنة والد الكاتب؛ مما يُوضّح التصنيف الاجتماعي للكتبة ضمن المجتمع المحلي. 

السخرية من النبلاء

يقول كاتب المقال: “هل كان محتملاً أن يكون “شوكور” (كما هو حال بعض الكتبة الآخرين) فعلا أحد أفراد الاسرة الملكيَّة؟ أنا شخصيا أشّكُ بذلك.. ولعل بإمكاننا دحض هذه الفرضية من الأساس استناداً الى نمط النبرة الساخرة للنص. لكن من المحتمل جداً أنه كان من أبناء النبلاء، ولعله كان مثل “فولتير” (1694 - 1778 م)؛ من النبلاء الصغار الذين لا يترفعون عن السخرية من اللوردات والملوك.. ورغم الامكانيَّة إلا أنه لا يزال غير محتمل، وللسبب ذاته: تلك الأعمال الأدبيَّة تحمل من السخرية ما ينفي كون كاتبها من الطبقة الحاكمة؛ بغض النظر عن مدى تواضع نسبه، وحتى فولتير لم يسخر من النبلاء الى ذلك الحد!”. 

“.. كما ان من غير المحتمل كون ذلك الكاتب تابعا للمعبد؛ لغياب السياق الديني تماما من نصوصه.. أرى على الارجح أن “شوكور” كان ابن أحد التجار الأغنياء وبالتالي ليس من ذوي الأصل النبيل؛ كما كان أبطال نصوصه الأدبيَّة. وهذا يعني ان المراكز العليا لم تكن متاحة لشوكور؛ فهي من نصيب أبناء الملوك والنبلاء. لكن البلاط كان مفتوحاً أمامه، كما هي الحال مع أي كاتب. يوحي فحوى النص الأدبي أنه كان على اتصال بطبقة النبلاء، لكنه ليس جزءاً منها..

“رمح الكلمات”

 وماذا عن الرجل ذاته؟ كثيرا ما كُنتُ أتصوره رجلا في منتصف العمر أو اكبر قليلا؛ بسبب “خط يده” على اللوح الطيني: انه خط سريع وراسخ، يشي بسنواتٍ من التدريب؛ اضافة لأناقة اللغة المستخدمة.. يصعب إتقان الكتابة المسماريَّة (التي لا تحمل الاّ القليل من التشابه مع اللغة السومريَّة المنطوقة)؛ إذ تتطلب سنواتٍ من الجهد والدراسة؛ وقد استخدم شوكور اللغة بمهارة كبيرة وبراعة. لا يُظهِر النص السخرية المتكلفة لشاب صغير السن؛ بل الحكمة الناضجة التي تأتي من تقدُّم العمر والتجربة. ورغم السخرية لم تكن الفكاهة في هذه القصة مريرة أو تافهة أو حانقة أبدا كأفكار الشباب العابثين؛ بل حملت الفكاهة المتحررة لرجل أكبر سناً، يعرف “طرق العالم” بشكل أفضل”. عاش “شوكور” في أوقات مضطربة، مليئة بالعنف والحرب، وبالنسبة له لم يكن هذا اللوح مجرد تمرين أكاديمي؛ بل انعكاس دقيق للعالم الذي يعيش فيه. ولم تكن قصة كُتِبَت من مكان آمن بعيدا في الزمن والمسافة؛ بل كانت من حياته هو. والمدهش أن الفكاهة فيها خالية من الحقد، بل تُقدّم بعض التفاؤل: فالخير ينتصر في النهاية على الشر.. على الأقل لفترة من الوقت.

لا ريب ان “شوكور” كان ذكياً ونبيهاً، ويتمتع بروح Hالدعابة والفكاهة السلسة كما يتمتع بعقلية فلسفية؛ مما يجعله واحداً من أوائل “الفلاسفة الضاحكين” في العالم. ولا ريب أنه كان كاتبا مثقفا؛ إذ ان الكتبة كانوا عام 2000 ق.م. الاكثر تعليما في العالم؛ ولهم باعٌ في الرياضيات والعلوم وادارة الأعمال والأدب. ولا ريب أن صحبة شخصٍ مثل شوكور كانت أمرا ممتعا؛ كما قال أحدهم يوما: “نشعر أحيانا بالدهشة من “حداثة” أسلافنا القدماء”.. ولو كان شوكور حياً اليوم لرغبنا بالتجول معه ومناقشة الفلسفة والادب والسياسة.. أو لمجرد المزاح.

اللوح رقم 36

يحيط الغموض باللوح “36”.. تُؤكد الحقائق المتعلقة به أنه يعود لأربعة آلاف عام من بلاد النهرين، مكتوبٌ بالمسماريَّة السومريَّة.. والحقائق المؤكدة تتوقف هنا!! منذ اقتنته مكتبة الكونغرس عام 1929 (من جامع تحف خاص)، تسبب ذلك اللوح بالصداع حتى للأكثر خبرة بين علماء اللغة السومريَّة لتحليل محتوياته.. وطيلة سنوات تكهن الباحثون بماهية النص؛ إذ قد يكون مجرد ثرثرة سومريَّة أو جداول معلوماتٍ ادارية؛ لكن الكتابة عليه تبدو أحيانا غير مفهومة.. يؤكد الباحث في الكتابة السومريَّة “جيرالد جاك ستار”  أنه أول عمل أدبي في العالم مكتوبٌ بالشفرة: رواية عن جريمة قتل، وكوميديا سوداء، وسخرية سياسية مكتوبة بالكامل باستخدام شفرة من قبل كاتب سومري لا يقل براعة عن شكسبير.. يقول “جيرالد جاك ستار”: “هناك الكثير من الحوادث المريعة في هذه القصة؛ لكنها سُرِدت باسلوبٍ فكاهي؛ ولا توجد قصة سومريَّة أخرى مضحكة بكامل النص. وهذا أول لوح مسماري يتضمن “جريمة قتل غامضة”؛ فهناك محاولتا قتل على الاقل في النص.. لم تجرِ تسمية الجُناة؛ لكنَّ الدلائل على هوياتهم ودوافعهم زُرِعت في القصة.”. يُشير “ستار” الى التفصيل الذي قادهُ الى فكرة ان القصة مكتوبة بالشفرة: إنه مفتاح (أو تلميح) منقوش على اللوح ذاته، والذي يفك شفرة حرف واحد فقط؛ تماماً كما هي الحال مع الألغاز المشفرة التي تظهر في الصحف اليوم.. ذلك التلميح الصغير قاد “ستار” الى ترجمة ما يرى أنه تحفة أدبيَّة قديمة تتكون من أربعين سطراً ونهايتها مفقودة (بسبب تلف أصاب اللوح)، وأعطاها عنوان: “الثور الكبير البدين”.. فما الذي دفع الكاتب الى تسطير قصة كهذه بالشفرة؟ يرى “ستار” ان السبب هو الجانب السياسي الساخر، قائلاً: “حينما كُتب ذلك اللوح كان الملوك السومريون يُعبدون بصفتهم آلهة حية؛ لذا لم يكن من المرجح أن يسمحوا لأنفسهم أنْ يصيروا موضع سخرية عامَّة. ولذا جرت كتابة اللوح بالشفرة بحيث لا تسهل قراءته من قبل أي شخص؛ باستثناء من كتبه..”.  تصلح قصة “الثور الكبير البدين” لوصف أي طاغية؛ في أي مكان وزمان من العالم.. وكانت حقيقة أن “شوكور” يؤكد أن الملك ليس إلهاً بل مجرد رجل، كافية لضمان عدم نشر اللوح أبداً..


 موقع “شكسبير السومري”

• جيرالد جاك ستار: خريج جامعة شرق ولاية تينيسي، شهادة علوم الكومبيوتر والأدب الإنكليزي