إمبراطوريات العلامات {الفارغة}

ثقافة 2025/01/29
...

عزالدين بوركة





حين كتب رولان بارت “إمبراطورية العلامات*” عام 1970، كان يمارس فعل الكتابة كسيميائي ومفكر ينسلّ عبر تلافيف اللغة والصورة نحو أفق بعيد: اليابان. لكنه لم يكتب عن اليابان بوصفها “واقعًا” أو “آخرًا” بالمفهوم الاستشراقي، بل ابتدع يابانه الخاص: فضاءً من العلامات ينفتح على اللامعنى كما على التحولات الشعرية للذات والعالم. فالنص ليس رحيلًا إلى الآخر بل إلى الفراغ، فراغ العلامات الذي ينهدم فيه النظام الغربي المتمركز حول المعنى والقوة.

يدعو بارت قراءه منذ الصفحة الأولى إلى أن يضع جانبًا كل توقعاته عن الشرق، فيقول: “إذا أردتُ أن أتصوَّر شعبًا خياليًا، أستطيع أن أمنحه اسمًا مُختلَقًا، وأتعامل معه بصيغة تقريرية كأنه موضوع روائي، (...)، أستطيع أيضًا، من دون أيّ نيّة لتمثيل أو تحليل أية حقيقة (وهما الحركتان الرئيسيتان للخطاب الغربي)، أن أستخلص من مكان ما في العالم (هناك) عددًا معينًا من السمات (...) ومن هذه السمات أُشكِّل نظامًا بصورة متعمّدة. هذا النظام سأُسميه: اليابان” (ص. 11). فهو لا ينشغل بما هو “واقعي” ولا يغرق في رمزية مفرطة. بل يشيد نظامًا من العلامات - أو بالأحرى، فضاءً متحررًا منها. فاليابان هنا ليست سوى خدعة لذيذة، قناع يتوسله ليعيد تأمل المنظومة الثقافية الغربية التي تحتضر في صمت.

من هنا، يتبنى بارت منهجًا مضادًا للاستشراق بمفهوم إدوارد سعيد الذي فضح في كتابه الشهير “الاستشراق” (1978) بعده نزوع الغرب إلى بناء صورة متخيلة للشرق، صورة تُكرّس الآخر بوصفه غريبًا وعجيبًا وهامشيًا. لكن بارت لا يسعى إلى تقديم اليابان بوصفها هذا “الآخر” الغريب، إذ يقول “أنا لا أتطلّع بمودّة إلى جوهر شرقي؛ (...) الشرق [بالنسبة لي] خزان من السمات التي تُمكّن، عبر تجميعها ولعبها الاختراعي، من ‘مداعبة’ فكرة نظام رمزي غير مسبوق، متحرر تمامًا من نظامنا” (ص. 11).. فاليابان التي يتحدث عنها هي «إمبراطورية علامات» فارغة من أي مركز، علامات تخلو من التماسك المتشددّ للمعنى. وبذلك يقلب السرديات الغربية رأسًا على عقب، حيث إن العلامة “فارغة” وليست ممتلئة بالمعنى المقدس أو الحقيقة المطلقة.

في النص، تتحول الأشياء اليابانية إلى علامات متحررة من ثقل الدلالة: البسمة، المروحة، الهايكو، الشوارع، الأواني الخزفية، والكتابة نفسها. إنها “علامات بلا إله” (ص. 151) مثلما يقول بارت. فما يراه ليس جمالًا استشراقيًا، بل هو سحر للفراغ عينه. كل صورة، كل حركة وكل إيماءة تعلن تحررها من الوعي الغربي الذي يُخضع كل شيء إلى ثنائية المعنى/ اللامعنى.

إنَّ محور الكتاب ينطلق من إدراك بارت العميق للعلامة بوصفها نظامًا للانفلات من قبضة “المعنى”. فإذا كان النظام الغربي يرتكز على ارتباط المعنى بالسلطة والحقيقة (المنطق المركزي للميتافيزيقا الغربية)، فإن اليابان - في تصوره - تقدم نموذجًا مختلفًا تمامًا: العلامة فارغة، متحررة من أي بعد ميتافيزيقي، وهي بذلك علامة مضادة للنظام الغربي الذي لا يفلت من مطاردة المعنى.

أحد أبرز تجليات هذه الرؤية عند بارت هو تأمله في الشعر الياباني الهايكو، الذي بتكوينه الثلاثي البسيط، لا يسعى إلى تفسير العالم أو احتوائه في قوالب منطقية. إن الهايكو “يفلت من المعنى”، إذ “لا يقول شيئًا” (ص. 93)، ومع ذلك يقول كل شيء، ومن خلال هذا الشرط المزدوج يبدو أنه يقدم المعنى، بطريقة متاحة وقصدية بشكل خاص، “مثل مضيف مهذب يسمح لك بالاستقرار على نطاق واسع عنده، مع خصوصياتك، وقيمك، ورموزك”، (ص. 93) يضيف صاحب “الأسطوريات”. فهو يقبض على اللحظة كاشفًا عن الفراغ الهائل الذي ينفتح في قلب الأشياء. الهايكو عند بارت هو درس في اللامعنى الذي يحرر العلامة من سطوة التفسير الغربي. يكتب بارت: “في الهايكو، يمكن القول إن الرمز والاستعارة والدلالة لا تكلّف شيئًا تقريبًا: بضع كلمات فحسب، صورة واحدة، إحساس بسيط — حيث تتطلب أدبياتنا عادةً قصيدة، أو تطويرًا مطولًا، أو (في النوع الموجز) فكرة مصقولة بعناية، أي عملًا بلاغيًا طويلًا” (ص. 94). بالتالي، يمكن القول بلغة بارت ومعه، بأن الهايكو يتجسد في زمنية الحدث العاري، لحظة نزع العلة والغاية، حيث كل شيء يصبح بديهيًا وصامتًا.

إنَّ هذا الإعلاء من شأن الفراغ يتجلى أيضًا في تأمل بارت للكتابة اليابانية نفسها. الكتابة اليابانية (كانجي) تبتعد عن المركزية الغربية للغة التي ترتكز على اللفظ والمعنى. فالحرف الياباني يمتلك استقلالية بصرية، خطية وجمالية؛ هو ليس مجرد وسيلة لنقل معنى، بل هو علامة في حد ذاته. لهذا يذهب بارت إلى رؤية أن الحروف اليابانية تتجلى كلوحة بصرية، وككتابة تُمثِّل ذاتها ولا تبحث عما وراءها؛ وحيث “”إن التصوير الصباغي والكتابة يستخدمان الأداة الأصلية نفسها، وهي الفرشاة، ليس التصوير هو الذي يجذب الكتابة بأسلوبه الزخرفي، بلمسته الممتدة، والمداعٍبة، في مساحته التمثيلية (...)، بل على العكس من ذلك، فعل الكتابة هو الذي يُخضع الإيماءة التصويرية، بحيث لا يكون التصوير الصباغي أبدًا إلا تدوينا” (ص. 123).

من خلال هذا الفراغ الذي يكشفه بارت في النظام الياباني، يصبح الكتاب نوعًا من التمرين على السيميائية الشعرية. فالنص عند بارت ليس مجرد وصف للأشياء، بل هو كتابة تقاوم الانغلاق داخل معنى واحد. إنه نص يتشظى، يفلت من القبضة المركزية للغة الغربية التي تفرض معنى مستبدًا. إن نص «إمبراطورية العلامات» يصير - بهذا المعنى - علامة فارغة تتكاثر في مساحات تأملية تتحدى القارئ وتُشعل فيه فضولًا لا نهائيًا.

على مستوى أعمق، فإن تأمل بارت للثقافة اليابانية هو تأمل في الذات الغربية ذاتها. فالرحلة إلى اليابان لم تكن إلا هروبًا من مركزية الفكر الغربي الذي يمتص كل شيء داخل منظومته. اليابان عند بارت ليست سوى مرآة تُعيد للغربي صورته بوضوح مزلزل. من هنا، يصبح السفر إلى اليابان هو سفر في الذات، في الفراغات التي تتخلل الفكر الغربي وتكشف هشاشته. لقد بحث بارت في اليابان عن ذلك التجسيد الحيّ لحالة الصمت و”الدرجة الصفر” من الكتابة، حيث تفرغ العلامة وتتحرر من أثقالها، حيث تتحول الكتابة إلى كتابة خفيفة وحرّة، فهي ليست كتابة سلبية ولكنها بريئة، لا يتضمن شكلها أي نوع من “اللجوء إلى الأناقة أو الزخرفة”. ويتجلى ذلك في كتابة الهايكو الذي يعد “فنا ضد-الوصف” بخلاف الفن الغربي الذي يحوّل “الانطباع” إلى وصف (ص. 104). فتنعتق الكتابة من أي مرجعية مركزية وخلفية هرمية.

هذه الرؤية تتضح أكثر حين نقرأ تأملاته في المدينة اليابانية، طوكيو. بالنسبة لبارت، لا تشبه طوكيو أي مدينة غربية. فهي خالية من المركز، لا وجود لنقطة مرجعية أو لبنية هرمية تجعل من المدينة كيانًا ثابتًا. إنها مدينة بلا قلب، متشظية، حيث اللامركز هو سيد المكان، أو ما يسميه بـ”المركز الفارغ” (ص. 47). وبذلك تقدم المدينة نموذجًا مغايرًا للمدن الغربية التي تنبني حول مراكز السلطة والمعنى.

من هنا، يمارس بارت تفكيكًا مزدوجًا: تفكيك المركزية الغربية من جهة، وتأمل “الفراغ” الياباني من جهة أخرى. فهو لا يعيد إنتاج صورة استشراقية للآخر، بل يحرر الآخر من قيود المعنى الغربي. إذ العلامة لا تسعى، حسب دراسة بارت للتجربة اليابانية، إلى خلق معنى بل إلى إلغاء مركزته. في كتابه هذا، تمثل الكتابة اليابانية والطعام والشعر (الهايكو) أمثلة على كيف يمكن للعلامة أن تكون فارغة من أي دلالة ثابتة، وتخلق بدلاً من ذلك تجربة جمالية. وهو ما يخالف رؤى غربية، تأتي نظرية أمبرتو إيكو على رأسها، حيث العلامة دائمًا تشير إلى شيء ما. حتى عندما تبدو العلامة مفتوحة على التأويل، فهي دائمًا محاطة بسياقات ثقافية وأطر تأويلية تحدد مسارات فهمها. وهو ما يجعل العلامة نتاج الثقافة، وأنها دائمًا جزء من نظام اجتماعي يسعى إلى التواصل والتنظيم. بينما مثلما يبيّن مؤلِّف “شذرات خطاب الحب” أن الثقافة اليابانية تتحدى نموذج التفكير الغربي من خلال علامات تخلو من الدلالة المركزية، مثلما يرفض الحيّز المكاني المركز (ص. 152).

ينفتح كتاب “إمبراطورية العلامات”، إذن، على بعد فلسفي وجمالي يتمثل في العلاقة بين الإنسان والعلامة، حيث يتخذ النظام الياباني نموذجًا يقاوم مركزية التأويل. ليس ثمة قمع أو تحكم في الدلالة كما هو الحال في الثقافة الغربية التي تُخضع العلامة لمركز سلطوي. هذه العلاقة تظهر جلية في التعامل مع الطعام الياباني الذي يرصده بارت في شكل “لوحة فنية” تتحول مع التفاعل إلى لعبة من التشكيلات الحرة؛ إذ مثلما يقول: “تبدو صينية الطعام بمثابة اللوحة الأكثر حساسية... ما كان لوحة ثابتة في البداية، يصبح منضدة عمل أو رقعة شطرنج، مساحة، ليس للرؤية، ولكن للعمل أو اللعبة” (ص. 23). فالطعام ليس مجرد مادة، إنه علامة ترتسم عبر التقاطعات الجمالية للحركة والإيماءة.

على المنوال ذاته، تتبدى الكتابة اليابانية في النص كأثر بصري يشبه الرسم. إنها كتابة تقاوم الاستعباد الغربي للأبجدية التي تحول النصوص إلى أوعية للمعاني المغلقة. في النظام الياباني، تنطلق الحروف من الفراغ وتعود إليه. كل علامة هي حدث متجدد لا يسعى إلى الغاية بل يتماهى مع الفعل الجمالي ذاته. وتكاد كل العلامات والممارسات الطقوسية واليومية اليابانية تتحد في ما بينها، وتتخذ بعدا كتابيا، حيث “يتم تأسيس الطعام الياباني في نظام مادة مختزل (من الواضح إلى القابل للقسمة)، في ارتعاش الدال: هذه هي الخصائص الأولية للكتابة”، يخبرنا بارت (ص. 26).

المسرح الياباني “بونراكو” -الذي يتخذه بارت نموذجا كتابيا- يقدم بعدًا آخر لمفهوم العلامة المتحررة. فالحركة البطيئة والإيماءة الصامتة تكشف عن لغة تنطق من خلال الغياب، لغة لا تهدف إلى تمثيل الواقع بل إلى خلق مساحات من التأمل والفراغ. حيث إن هذه الممارسة الفنية المسرحية تتخذ لنفسها “ثلاث كتابات منفصل، تُقرأ في وقت واحد في ثلاثة أحياز من العرض: الدمية، المتلاعب، الراوي [الصارخ]: الإيماءة المؤداة، الإيماءة الفعالة، الإيماءة الصوتية” (ص. 70).

يلتقط بارت في “إمبراطورية العلامات” هذه التفاصيل بدقة السيميائي وبنباهة الأديب، ليكشف أن التحرر من المعنى ليس إخفاءه، بل فتحه على مسارب لا نهائية من الدلالة. وهو ما يقود بارت للقول بأنه “في هذا البلد (اليابان)، إمبراطورية الدلالات واسعة للغاية، فهي تتجاوز الكلام إلى حد أن تبادل الإشارات يظل ذا ثراء رائع، وحركة، ودقة على الرغم من غموض اللغة” (ص. 22). العلامة الفارغة هاهنا ليست عديمة القيمة، بل هي أرض خصبة لاستعادة العلاقة الأولى مع العالم، حيث تنتفي الحدود بين الإنسان والأشياء، بين الذات والآخر، وتنهار المسلمات التي ترسخ سلطة الفكر المتمركز.


*الاقتباسات عن: Roland Barthes, L’empire des signe, éd. Seuil, Paris, 2005.