فيضانٌ ينغزُه المطر.. هوية ما بعد الحداثة

ثقافة 2025/01/30
...

  ابتهال بليبل 

في الثقافة المجتمعية عموماً، تم تفسير المرأة كائناً جسدياً في المقام الأول، لذا فإنها تصبح تجسيداً لأحد عنصري التناقض الثنائي، الذي تعامله الثقافة على أنه أقل قيمة، أو حتى مناقضة للقيم الإيجابية المنسوبة. وبهذا الصدد، تقول الفيلسوفة سوزان بوردو إنه إذا كانت المرأة هي الجسد، "فإن النساء هن تلك السلبية، أياً كانت: التشتيت عن المعرفة، أو الإغواء، أو الاستسلام للرغبة، أو العنف أو العدوان، أو فشل الإرادة، أو حتى الموت".

ومع ذلك، فمن المدهش أن مفاهيم "السلبية" و"الاختلاف" و"الغربة" تجد تطبيقاً تقليدياً ليس فقط في عملية صياغة الأنوثة ثم تحويلها إلى خطاب، بل وأيضاً في العملية التناظرية لتعريف هوية الأنثى. 

من السهل أن ينسب إلى النساء في مناسبات عديدة ما يسمى "الهوية السلبية": فبما أن النساء يعرّفون أنفسهم من خلال الإشارة إلى المجموعات المهيمنة "الرجال"، فمن الواضح أنهم يجدون أنه من الأسهل أن يقرروا ما ليسوا عليه بدلاً من ما هم عليه. 

إن التوازي ينبع من تجربة مماثلة للتهميش، فكما تم وضع النساء تقليدياً على هامش الثقافة الذكورية، فكثيراً ما يشعر الرجال وكأنهم يشاهدون الحدث المتعلق بحياة المرأة ما على الهامش. نقرأ في قصيدة "دوران" من مجموعة "فيضانٌ ينغَزُه المطر" للشاعرة عائشة عبد الستار: (المؤسف../ أن الطاولة تمنت لو أنها باب كي تتأرجح/ الباب تمنى لو أنه كرسي ليستريح/ الكرسي تمنى لو أنه ساعة ليتمنى الانتظار/ الساعة تمنت لو أنها ريح لتجرب الركض/ الريح تمنت لو أنها نسمة لتعرف السكينة/ وأنا بينهم/ أعيش دور مقبرة/ كلما قرر طيني التفكير بالخلق/ أحضروا لي جنازة). 

من الواضح أن العلاقة بين المرأة وجسدها تقوم على الثنائية التقليدية "الجسد مقابل العقل". ترتفع المرأة/ الموضوع - "الأنا" غير المادية عبر ماديات النص (الطاولة، الباب، الكرسي، الساعة) - بثقلها فوق الكائن الفسيولوجي/ الأنثوي: الكائن الضعيف المنسي. 

إنّ العناصر المادية "الجمادات" تصبح هنا "الجوهر أو الذات"، في حين يتم تقليص الجسد إلى حاوية لا قيمة لها، أو مقبرة، فيصبح مكاناً مجازياً للدفن، ومن ثمّ فقدان الحركة وربما الانتهاء والموت. 

إن العلاقة بين "المرأة وجسدها" ذات طبيعة دائرية، حيث يسقط الفعل المجتمعي على جسدها بشكل متكرر "كلما قرر طيني التفكير بالخلق/ أحضروا لي جنازة".

في هذه القصيدة، تصبح المرأة المنفصلة عن جسدها بلا مأوى مجازياً، فهي غير قادرة على أن تسيطر على نفسها وتظل في حاجة إلى جسد خاص بها. وعلى الرغم من حقيقة أن صورتها النمطية في الثقافة الأبوية مرسومة في فضاء مناورة (هيمليك، وهي إجراء طارئ يستعمل لإخراج جسم غريب من مجرى الهواء لشخص ما)، فإن الجسد الأنثوي -غير المحدد بالإشارة إلى الأدوار الاجتماعية المذكورة - يُنسب إليه سمات تستبعد مألوفية فضاء المكان. وعلى هذا فإن جسد المرأة يُعرَّف بأنه "يفتقر إلى الاحتواء الذاتي. ليس إلى وعاء، بل إلى انعدام الشكل الذي يبتلع كل شكل، واضطراب يهدد كل نظام. 

وعلى هذا النحو، فهو يتشابه مع المقبرة التي تضم الجثث، بوصفها مساحة معرفية بديلة، فإن هذا المكان الآخر يتطلب فواصل معرفية تتطلب أدوات جديدة لفهم ماديتها، إنها تدعو إلى فهم المكان الذي أصبح الفضاء الغريب المتجاوز، ورمزاً لوجود آخر.

في الجسد الغائب، يتحدث الفيلسوف درو ليدر عن الجسد البشري بوصفه نشوة وتراجعاً. إن كلمة "نشوة" كما يذكر ليدر هي ما يبرز من الوجود. وهذا يصف بشكل رائع عمل الجسد الحي. فالجسد يتمتع دائماً بموقف محدد ـ وهو الموقف الذي نوجد به ونحدد به هويتنا. ولكن طبيعة الجسد الحقيقية هي أن ينطلق إلى الخارج من مكانه الذي يقف فيه. والتراجع يعني الذهاب أو التراجع إلى الوراء. والجسد متراجع لأنه "لا ينطلق إلى الخارج في التجربة فحسب، بل ويعود إلى أعماق لا يمكن تجربتها".

يقترح ليدر أن الجسد الصحي "العادي" يُختبر من حيث الغياب والحضور. ومع ذلك، قد تنقطع حالة الحضور هذه بسبب الألم أو المرض أو أي لقاء مع الآخر، ويؤدي الانقطاع بدوره إلى ما يسميه ليدر "عدم ظهور" الجسد. 

ومن المهم أن "عدم الظهور" لا يشير فقط إلى "الغياب" أو "الاختفاء" اللذين يميزان الأداء العادي، بل إنه يصف ظرفاً يظهر فيه "الجسد باعتباره بؤرة موضوعية، ولكن على وجه التحديد كما هو الحال في حالة عدم الظهور - يعني أنه "سيئ أو صعب أو مريض" أو "غير وظيفي". 

إن الخلل في الظهورـ الذي يتخذ، مثل المقبرة، يشكل انقساماً بين الجسد والأنا ويهدد الجسم الواحد ويدعو للانفصال عنه رغم وجوده مادياً، وهنا تشخص امرأة قصيدة مجموعة عائشة بأنها مصابة بـ "الطبيعة الغريبة للتجسيد"، فيصبح جسدها غريباً عن ذاتها. إن المرأة مستعدة لاتخاذ أي وسيلة ضرورية للتخلص من الجسد المؤلم (مجازياً وواقعياً). وهو من الممكن ملاحظته في الواقع، إذ "التخلص من الجسد" لم ينحسر كاستعارة فقط. إن العمليات الجراحية العديدة التي تبدي المرأة دوماً استعدادها لخضوع جسدها لها غالباً ما تهدف إلى اخفاء السابق وإظهار غيره الذي صنعته هي في مخيلتها.

تؤكد العديد من نساء المجموعة الشعرية "فيضانٌ ينغَزُه المطر" على الصلة بين جسد المرأة وهويتها، وتضفي طابعاً درامياً على دورها كشيء يجب التركيز عليه. تخترق العديد من أعضاء الجسد مثل (أصابع، وجه، الشفة، العيون) وما يقابلها من أفعال وتحولها إلى شيء فني. (أعد الذكريات التي تحملها أصابعي وأنتهي بالوحدة- من قصيدة الحظ والأصابع). 

وفقاً للكاتب والروائي جون بيرجر، أن المرأة، في الواقع، "قريبة جداً من نفسها"، تنظر إلى نفسها فقط: (أقول دوما "لا أحبك"/ ليصبح أنفي غصناً/ تجتمع فوقه الطيور/ وأكون أول دمية خشبية/ يحولها الغزل إلى أنثى- من قصيدة تأريخيات). 

ومن المثير للاهتمام أن هذا النص يذكرنا بما يزعمه درو ليدر عن "الإدماج المتبادل"، كما عرّفه الفيلسوف موريس ميرلو بونتي، ضمني، أيضاً في نظرية جان بول سارتر: الذي يزعم أن نظرة الآخر تقودني إلى تجربة جسدي كموضوع. لكن هذا يفترض أنه إلى حد ما، يمكنني أن أرى نفسي كما يراها الآخرون. فقط لأن رؤيتي تتضمن دائماً رؤية الآخرين، يمكنهم أن يمتلكوا هذه القوة على النفي عليّ. أضع نفسي في مكانهم، وأفترض وجهة نظرهم، تماماً كما يفعلون هم. 

ومن ثم ّ، فإن "الإدماج المتبادل" هو الشرط المسبق الضروري ليحول (دمية خشبية إلى أنثى- بسبب غزل الرجال)، وهذا الأمر لا يحفز اندماج "الذات والآخر"، بل لوجود منفصل يعتمد مع ذلك على أن يظل الجسد موجوداً، على نحو إشكالي، لأن "الجسدين الخشبي والحي" يتعايشان في قصيدة عائشة. إن الوجود الرمزي للدمية الخشبية لا يلغي الجسد الحي، ولكنه يوفر مسافة ضرورية لرؤية الأشياء بشكل مختلف. 

وفي ضوء هذه التفسيرات، فإن الحدود النظرية لجسد المرأة تخضع لتحولات مستمرة، وتتعرض للانتهاك بلا توقف. وهو ما يأخذنا نحو النسوية في سبب وجوب تبني النساء أدواراً معينة بناء على بيولوجيتهن. 

تحاول بعض النظريات النسوية رسم خطوط فاصلة بين السلوك المحدد بايولوجياً والسلوك المحدد ثقافياً غاية في تحرير كل من الرجال والنساء قدر الإمكان من أدوارهم الجنسانية الضيقة.

في هذه النقطة، نوضح أن قصائد "فيضانٌ ينغَزُه المطر" تعكس أهمية شعرية "ما بعد النسوية" والواقع أن مجموعة عائشة هي نتاج مميز، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا لعالم "ما بعد الحداثة وما بعد النسوية". فهي تُظهِر إعادة صياغة للموضوع والذاتية واللغة مستلهمة من روح عصر "ما بعد النسوية" المتمثلة في التناقض وعدم اليقين والإمكانية والتنوع. وهي رموز لمكاسب النسوية، ولكنها أيضاً لقيودها ولكن هذا، بحسب ما أوضحه الروائي والكاتب "إي آر برايثوايت"، لا يكون منطقياً إلاّ إذا اعتقد المرء أن هناك معنى واحداً ثابتاً للنسوية. 

في عالم ما بعد الحداثة، فإن مثل هذا الاستقرار مستحيل، وتعكس قصائد الشاعرة هذا الإدراك، وتشجع على إعادة التفكير في ما يشكل النسوية من خلال التفاوض على المصطلحات المختلفة للفهم والمعارضة - النسوية، ومعاداة النسوية، والأنوثة، وكراهية النساء، ومركزية المرأة وجسدها. 

في هذا السياق الفلسفي والمعرفي، تعكس قصائد المجموعة الشعرية نقطة تحول نشأت عن تتويج ثلاث موجات من النسوية والانتقال إلى عالم ما بعد النسوية. حيث تبدو المجموعة وكأنها هي قصة تطور النسوية بأسلوب شعري متعالي ودافق بالرؤى العميقة.