أحلامٌ لطفولة.. بغدادي أصيل

ثقافة 2025/02/02
...

 د.معتز عناد غزوان


تتشكل الأحلام في ذهنية المبدع تشكلا يختلف اختلافاً كبيراً عن مخيلة الإنسان الاعتيادي، لاسيما أن المبدع هو من يخوض غمار التجربة والحياة ويعيش أدق تفاصيلها احساسا مرهفا باللون والشكل والملمس والخطوط وجمال التكوين، فضلا عن القدرة التقنية العالية في تشكيل الخطاب الجمالي، مع التمسك بمرجعيات المكان والتراث والتاريخ. وكما يصف "سيغموند فرويد" تلك الأحلام بأنها حلول للفنان المبدع في استشراف واختطاط أسلوبه الإبداعي، هنا يجسد الفنان العراقي طالب جبار بوصفه مجربا في حقل الفن والذي غدا اليوم ما بين صراعات التجريب والخروج عن المألوف والتجريد والاختزالات، وغيرها من الأفعال التقنية والأسلوبية اليوم، ولاسيما في معظم تجارب الرسم العراقي المعاصر تحديدا، فهو جزء من تجربة عالمية، بل اتجاه جديد يطرأ على الفن العالمي بشكل عام. 

في معرضه الأخير "أحلام الطفولة" قدم لنا الفنان طالب جبار أعمالا جديدة بأسلوبه البغدادي الأصيل الذي يعيدنا إلى روح الرسم العراقي الأصيل وتحديدا أسلوب جماعة بغداد للفن الحديث، وأعمال الفنان الخالد جواد سليم وكثير من الذين تأثروا به من مدرسته أمثال فرج عبو، ونزار سليم، ونزيهة سليم، وجبرا ابراهيم جبرا، من خلال مكونات لوحات طالب جبار نستطيع القول بأنه جاء متواصلا بإحياء مدرسة بغداد للفن الحديث في القرن الحادي والعشرين، بمنطلقات ورؤيا جديدة تحاكي المتذوق العراقي، وتشعره بحميمية الانتماء للعراق، والتراث المحلي المتميز. 

تجلت معظم أعمال طالب جبار في معرضه الأخير بدلالاتها المباشرة عن طبيعة الحياة الاجتماعية البغدادية البسيطة وحارات وشوارع المدينة الجميلة التي كانت تتميز بألوانها وبيئتها، وكأنه يشير إلى تغير المكان وتحولاته "الكونكريتية" الصماء، وغياب الاحساس بالبيت البغدادي الذي بدأ يزول بزوال اصالة العائلة وتلاشي مظاهر الحب والتعالق الأسري العريق. 

لقد جسد لنا الطبيعة العراقية المتميزة من خلال النخلة كرمز عراقي أصيل للخصب والنماء منذ عبق الحضارات الرافدينية، في سومر وأكد وبابل، فضلا عن التوكيد الواضح للزي العراقي الشعبي والتراثي للرجل الريفي والبدوي كالعقال وعباءة المرأة العراقية التي تجمع الأسرة بحنانها ومحبتها لأطفالها الذين يلعبون بكل بساطة وبراءة في الحارة البغدادية، وهم يلعبون تلك الالعاب الشعبية المتعارف عليها في حملهم للطيارات الورقية التي يصنعوها بأيدهم  بكل فرح واستمتاع وانسجام ومحبة. 

لقد اتجه طالب جبار إلى استعمال الألوان المتضادة أحيانا من أجل التأثير في المتذوق وإثارته نحو سبر اغوار المضمون من جهة، والانسجامات التي وضعها متقصدا في بعض لوحاته كوجود عائلة لونية واحدة كالأحمر والبرتقالي والأصفر، وما بينهما من الوان حارة مع الوان أخرى كالأزرق والبني والأسود مما يجعل من اللوحة خطابا بصريا جماليا مؤثراً وممتعا جدا. لقد جسد طالب جبار العادات والتقاليد البغدادية من خلال العديد من المشاهد الجميلة كمشاهد الاعراس والأفراح والسفر والأسواق والبيت والأسرة والأطفال والدراجات والعلاقات الإنسانية المفعمة بالبراءة والصفاء. 

إن معالجة الفنان طالب جبار لروح المكان والتراث والتاريخ والحياة الشعبية البغدادية كانت معالجة مهمة، ولاسيما في زمن قد تلاشت فيه تلك المسميات والمظاهر المتميزة اليوم، إذ غدت فيه رياح غريبة وتمازجت فيها عادات جديدة بدأت تحكم المجتمع العالمي والعراقي كجزء منه، والذي أصبحت الثقافة اليوم مهاجرة من الغرب لتحط الرحال في بغداد كما هو سائر دول الشرق، لتكون تلك الرياح بما تمتلكه من غبار ثقافي جديد وفوضوي أحيانا، وصوت وفعل جديد حملت معها اعصارا ثقافيا معولما أدى إلى اختفاء الهوية وزوال الخصوصية لترحل إلى غير رجعة. 

إن أحلام الطفولة لدى طالب جبار جاءت هنا لتعطينا أملا كبيرا في بغداد وأنها باقية وراسخة في هويتها وخصوصيتها المكانية والتراثية والاجتماعية، وكأنه هنا باحث انثروبولوجي مهم يفسر ويحلل طبيعة المجتمع ما بين الماضي الذي أصبح حلما كما يريد أن يبين ذلك، والحاضر الذي غابت عنه تلك الملامح الجمالية المتميزة لبغداد خاصة والعراق عامة. 

إن تجربة طالب جبار الأخيرة في تجسيده لأحلام طفولته وهي احلام طفولة كل عراقي ينتمي لوطنه ومكانه الأبدي، إنما هو معادل موضوعي لطبيعة التكوين واتساقه مع كل عنصر من عناصر بناء الخطاب الجمالي لأعماله، فاللون معادل موضوعي، والشكل، فضلاً عن الفضاء والملمس وغيرها، لقد جال طالب جبار في عوالم سحرية تبدو اليوم وكأنها أمنية يحاول فيها الفنان أن يعيدها إلى المشهد العراقي، ولاسيما البغدادي اليوم وبكل جرأة وأسلوب جمالي مبتكر 

ومتقن.