ميادة سفر
بما يشبه الوصايا الأخيرة ترك الكاتب الأرجنتيني أرنستو ساباتو خمس رسائل لقارئه في كتابه "الممانعة" الذي صدر بطبعة جديدة عن دار كنعان في دمشق، كتاب حمل الكثير من التأملات الفلسفيَّة بشكل لم يعتده القارئ من صاحب "أبطال وقبور"، تاركاً الكثير من مخزونه الفكري الذي ظلّ في ذاكرته وبعضاً من مواقفه وآرائه عمّا حدث ويحدث في عالم اليوم الذي طغت فيه التكنولوجيا على علاقات البشر الإنسانيَّة حتى تحول الإنسان إلى ما يشبه الآلة الميكانيكيَّة في عصر اتسم بالسرعة التي أخذت منا الكثير مما منتحتنا إيّاه الطبيعة، وأفقدتنا قدرتنا على الكلام وصرنا لا تعبر إلا بلغة الأرقام ولا نتحدث إلا من خلف الشاشات الصغيرة والكبيرة، وافتقدنا حتى جلسات شرب فنجان من القهوة في إحدى المقاهي ولقاء الأصدقاء والأهل، معلناً بأنّه "يؤمن بالمقاهي كأمكنة للتلاقي بين الناس، والتواصل فيما بينهم بحميميَّة ومودة".
خمس رسائل وخاتمة كانت آخر ما كتبه الأرجنتيني صاحب "النفق" الكاتب الذي لم يألفه القارئ إلا روائيّاً لامعاً، إلا أنّ غاية في نفسه بدت واضحة لمن تمكن من التعمّق في هذا الكتاب دفعته ليختار هذا الأسلوب عبر رسائل أراد توجيهها للقارئ، لعلها تمكنه من تجنب الضوابط والقواعد التي قد تفرضها عليه الكتابة الإبداعيّة، حملت كل رسالة عنواناً مستقلاً يشي بمضمونها فكانت كل منها بمثابة "تقرير مختصر عن اندحارنا العام" كما أشار مترجم الكتاب الذي نقله عن الفرنسية أحمد الويزي.
في الرسالة الأولى يأخذنا إلى عالم التلفزيون الذي انتشلنا من عالمنا الواقعي وحولنا إلى "جمهرة غفيرة من الحشود، التي لا تعرف غير مشاهدة التلفزيون وهي تعيش في عزلة وانفراد"، مع كل ما ترتّب على هذا الواقع الجديد من سلبيات وكوارث اجتماعيّة وبلادة وخمول باتت إحدى أبرز سمات الكائن البشري اليوم، فقد ابتعد الإنسان عن جوهر الحياة وأدمن التلفاز فغابت اللقاءات الاجتماعية بين الناس وكثر الضجيج وتخدرت الحواس، فساباتو يرى أنّ "الجلوس أمام شاشة التلفزيون بانتظام، هو تخدير للحساسيّة، وافتار لهمة العقل، وحط من قدر الروح الإنسانيّة"، محذراً من الكثير من الأمراض النفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة التي ستلحق بنا إن نحن واظبنا على هذه السلوكيات.
لا يستطيع القارئ إلا أن يقف لحظات متأمّلاً تلك الكلمات التي يفيض بها الكتاب، مقارناً بين ما يقوله "ساباتو" وما نعيشه اليوم في مجتمعنا الذي أكله الاستهلاك وانعدمت أو تكاد تنعدم فيه القيم الأخلاقيّة التي كانت تمتاز بها المجتمعات في أزمنة ليست بالبعيدة، فحين يقول: "لم يكن يخطر ببال هؤلاء القوم أبداً، أنهم قادرون على إهمال الواجبات المتحتم عليهم القيام بها، وألا يكونوا أوفياء.." وكأنّه يحاكي، بل إنّه يُحاكي بالفعل جيلاً بأكمله ما زال محتفظاً بالقيم التي تربّى عليها، أولئك الذين كانوا يولون قيمة كبيرة لشرف كلماتهم.
بين رسالة وأخرى يذكرنا صاحب "ملاك الجحيم" ويحدثنا عن الاندحار والانحطاط الكبير في القيم التي تجمع أفراد المجتمع، وكأنّه ما زال يعيش بيننا في هذا الزمن الذي عمت فيه التفاهة وأصبحت قيمنا تقاس بنسبة المشاهدة والمتابعة على وسائل التواصل الاجتماعي، داعياً إلى أن تأخذ الفنون دورها في الحياة العامة لأنَّ "الفن هو تلك الموهبة التي تعالج الروح من آثار الفشل والخيبات والاحباطات".
يناقش في رسالته الأخيرة التي حملت عنوان "الممانعة" موضوع العجلة والسرعة التي اعتبرها من أسوأ الأمور، وأقلقته وجعلت روحه ترتجف مما يصادفه من رجال ونساء "يحثون الخطى، خاضعين لضغط الوقت الذي صار يهدد إنسانيتهم"، معبراً بكل صراحة وقلق ووجع في كثيرٍ من الأحيان عن هول الكارثة التي تتهددنا في هذا الزمن المفرط في سرعته التي لن تمكن الإنسان من الحفاظ على هويته الإنسانيَّة، فلم يعد للحب والتضامن بين البشر مكان هنا، لأنّ "إنسان ما بعد الحداثة كائن مغلول إلى أساليب الرفاهيَّة".
أراد ساباتو أن ينبّهنا للخطر المحدق بنا، من خلال هجومه العنيف أحياناً كثيرة على التكنولوجيا بما فيها وسائل التواصل الاجتماعي التي تستهدف الوجود الإنساني والعلاقات بين البشر، ليختم رسائله بكلام عن الموت الذي بات أكثر استعداداً لاستقباله بعد أن كان قبلاً يعده "امتحاناً لقسوة الوجود" فها هو اليوم ينتظره وقد صار قريباً منه أنه "أدنى من حبل الوريد"، مستذكراً أولئك الذين آمنوا به وقرأوا كتبه، آملاً أن يعينوه على لقاء الموت وهو قرير العين، لعل تلك الرسائل الأشبه بالوصايا تنقذنا من جحيم يلتهمنا يوماً بعد يوم.