الصراع مع الواقع التكنولوجي مسرحيَّة {بيت أبو عبد الله} أنموذجاً

ثقافة 2025/02/03
...

  د. علاء كريم


تميَّزَ الزمن الحالي بتواتر وتعاقب الأحداث والمشكلات، خلافاً لأزمنة سابقة تميزت بالهدوء والاستقرار على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأن التوسع في دائرة الأحداث جعل من الزمن الحالي مضطرباً ومتداخلاً زمكانياً في جوانب ثقافية واجتماعية، مما أثر ذلك على الوعي المحلي وعلى الواقع الحياتي والإنساني، فضلاً عن تأثير التكنولوجيا الرقميَّة بشكل مباشر على التداخل في مجالات الحياة كافة. وهذا ما تجسّد في انعكاس الأحداث والتحولات البيئيَّة كصور مشهديَّة أدائيَّة عبر العرض المسرحي "بيت ابو عبد الله" تأليف وإخراج: أنس عبد الصمد. تمثيل: محمد عمر – ماجد درندش – ثريا بوغانمي – أنس عبد الصمد، ومجموعة من الممثلين الشباب. العرض من إنتاج: دائرة السينما والمسرح.  حاول المخرج أن يظهر طبيعة المتغيرات التي استجابت لكل التناقضات والاختلافات، والتي أثرت عبر المشهد المسرحي على تفكير المتلقي وامتثاله لهيمنة الأمكنة التي رسم بوساطتها المخرج شخصياته من صور تاريخية، لتكون ملامسة لخصوصية المتلقي المعاصر، وأن يجعلها تحضر معنا بالفعل الدرامي عبر استعارة الأمكنة والاقتراب من البيئات الأخرى، وذلك من أجل إنتاج معنى يحمل دلالة على أن هذه الشخصيات تعيش اليوم في واقعنا الحياتي، وهي تشاركنا العمل والمشاهدة والرأي، هذا ما سعى إليه المؤلف المخرج لتكون مساحة الخلق الإبداعي حقيقة يعيشها الجمهور، وايضا بوساطتها، يمكن للمتلقي أن يؤول ويعالج ما يطرحه العرض المسرحي، وبرؤية تنسجم مع الفكرة الاساسية، وتقترب من العامل النفسي الذي تعيشه الشخصيات. 

وهنا قد يتحقق جدل الحوار "المحاورة"، وتبادل الحجج أدائيّاً للدفاع عن وجهة نظر معينة، وهذا المنطق ينزاح بنا إلى الديالكتيكية المادية وتفاعلها مع الظواهر الطبيعيَّة، وايضا قد ينزاح إلى المادية التاريخيَّة التي تدرس ظواهر الحياة الاجتماعية، ومن ثم يمكنها أن تكشف الأساس الموضوعي المادي لمجمل الحياة الاجتماعية وتبين جوهر المجتمع البشري. هذا ما كشفه العرض المسرحي "بيت ابو عبد الله"، والذي قدم جدليَّة الواقع الحياتي للإنسان ومدى تعايش المجتمع البشري مع الفئران والعناكب، وكيف للمتلقي أن يشارك العرض، ويحفر فيه لعله يجد شيئاً من ذاته ماثلاً أمامه، ليترك عبد الصمد وفريق عمله دهشة بصرية صادمة ونفسية يمكن لها أن تطرح مجموعة من التساؤلات.

البيت هو المكان أو الإطار المحدد لخصوصية اللحظة الدرامية المعالجة للحدث، فضلاً عن أنّه المجال المادي الذي تتحرّك فيه الذات، وتتصل بالعالم وبالآخرين، وبيت ابو عبد الله يشير إلى المساحة الفعلية التي تستخدم في العرض، ومساحة خشبة المسرح التي يراها الجمهور، كما أن البيت هو انعكاس للمكان الدرامي الذي يرتبط بما يفرضه المؤلف من أمكنة داخل النص، والتي ترتبط ارتباطاً مباشراً بمدى قدرة المتلقي على التخيل وفك شفرات العنوان وإحالته إلى قراءات تأويليّة دالة على خطاب العرض المسرحي، وعلى استعاراته التي تعد صرخة وسط حالة من الفوضى والعبث داخل "المرافق الصحيَّة" المكان الذي يقضي به الفرد حاجته، والذي يريد بوساطته المخرج إظهار القيود ونتانة الواقع الذي يعيشه الإنسان، ومن ثم مناقشة العلل والصخب والثرثرة، وهناك من يدخل إلى هذا المكان ويخرج دون أن يتطهّر، كل الحمامات تتشابه بوظيفتها، لكن قد تختلف فيها النوايا من اجل التشبّث بالأمل. وعليه، كيف ينتبه من يحمل الضغينة والحقد إلى الوسخ القابع تحت جلده؟ وكيف يتحرّر الإنسان من سجن جسده وحركته؟ ويتخلص من السموم التي تلقي بظلالها عليه؟

بداية العرض هي اختبار لـ "صبر" المتلقي وبقائه صاغياً بصمت شديد، وتعد هذه البداية خطوة مهمة لتأمل مكونات بيت ابو عبدالله والدخول اليه بهدوء، ويدعو المشهد الاستهلالي المتلقي إلى تأمل الفئران التي تحاصر بيت ابو عبدالله صوتياً منذ البداية حتى النهاية، وأيضا يصور وجودها على الجدران بكثافة، ولم يكتفِ الإخراج بعرض البيانات (داتاشو) للفئران وحركتها، بل أظهر الفئران بهيئة شخصيات متعددة ارتدت السواد وتحركت على أربع أرجل، وأحياناً على اثنين، الفئران تمشي على الجدران وعلى الارض انها منتشرة في كل مكان، وهذا الانتشار بسبب موافقة أفراد العائلة بالتسلل الى البيت نتيجة عزلتهم عن بعضهم، ودون أن يشعروا بوجود الفأر الكبير الذي اقتحم البيت منذ البداية.

حاول المخرج فتح الجدران وانشاء تكوين جديد للبيت، يضيق من خلاله الحركة على العائلة داخل البيت لتبتلعهم الفئران، ولكنهم خرجوا للحياة من جديد بقوة إرادتهم، وهذا ما استدعى حضور الطبيب لمعالجة الموقف بحقنة نشطت الشخصيات لتعود عبر فعل جديد. فضلاً عن توظيف قالب الجبن الموجود على مائدة الطعام، ليعطي المخرج دلالة بأنّ الفئران تلتهم كل شيء، حتى الجبن الذي لا تحبه في حقيقة الأمر، وبينما الشائع أن الفئران تحب الجبن، فإنها على العكس لا تأكله إلا إذا شعرت بالجوع، فهو ليس الطعم المناسب لجذبها. وعليه، وصلت الفكرة إلى المتلقي التي تؤكد بأن الفئران تحاول دائماً شقّ طريقها إلى المنازل بحثاً عن الطعام والدفء والمأوى، وهي لا تستطيع فقط قضم الجدران وتدمير ما موجود في البيت، بل يمكنها أيضاً إحداث دمار في الجانب الصحي، فهي تقضم الأسلاك وتحمل عدداً كبيراً من البكتيريا وتسبب العديد من الأمراض.

كما شاهدنا أن الشخصيات الموجودة لم تشعر بالأمان، مما دعاهم أي افراد العائلة إلى الانعزال عن بعضهم، رغم انهم يعيشون مع بعضهم، يأكلهم الهَم والتوتر والكآبة، حتى لم يعرفوا الضحك ولا الابتسامة طيلة وقت العرض، بل على مدى حياتهم كلها، ونتيجة ذلك تولدت لديهم قناعة بحياتهم ليتشبثوا فيها.  

رسم المخرج مجموعة كتل، وكل منها له لغة محددة، على اعتبار أنّه ليس هناك حوار في العرض المسرحي، اعطت اللغة معنى للحبال المتدلية وهي الانتحار، أم أنها تمثل شكل الحياة المتأرجحة الفوضوية، وايضا معنى الغسالة التي تدل على أن شخصيات العرض موجودة وواضحة بكل ألوانها وأشكالها، ولا شيء يسترها عن الجميع، فضلا عن مقعد التواليت وكيس الملاكمة والمايكرفونات وغيرها العديد. كل هذه الكتل متشعبة ومتعددة المعاني، هي لا ترتبط فقط بالإنسان، بل لها وجود يرتبط بكل الكائنات التي تمارس حياتها عن طريق الحركة، بل وحتى الجمادات التي يمكن تحريكها بوسيلة او بأخرى. ورؤية المخرج عبرت عن الإيقاع الحركي الزمكاني الذي تستغرقه الحركة في بيان قوة الفعل للتعبير عن مجموع الأحاسيس والمشاعر التي تلامس خصوصية المتلقي.

مثّل فريق مسرحية "بيت ابو عبد الله" العراق في مهرجان قرطاج الأخير، ومشاركة فريق مسرح المستحيل، هو نتاج ورشة عملت لمدة زمنية طويلة، جمعت مجموعة من الشباب منهم "صادق الزيدي، سجاد حمزة، حسام معتوك، يوسف وعل، محمد قاسم، أزهر عبد الرزاق، مصطفى صلاح". ومن ثم هؤلاء نتاج وعي مسرحي مغاير يقوده الكاتب والمخرج أنس عبد الصمد، والذي عمل على بناء لغة جسد ملامسة للتطور الرقمي، ليحقق بوساطتها الصراع مع الواقع التكنولوجي، وبأسلوب مختلف عما يقدم من عروض مسرحية وفي أمكنة مختلفة. المهم نجاح التجربة على مستوى المسرح العراقي والعربي، لينتج كل هذا الاشتغال عن فوز مسرحية "بيت أبو عبد الله" بجائزة أفضل عرض متكامل، التانيت الفضي، في مهرجان أيام قرطاج المسرحية، "تونس – 2024". وهو واحد من أبرز وأهم المهرجانات المسرحية عربياً ودولياً.