صالح رحيم
[ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ]... سورة هود آية (100)
(1)
تحضر ماكوندو، قريةً حيَّةً، فيها ضوء وشمسٌ، وأحداث، أكاد أبالغُ إن قلت إنني خلال استذكاري لها، أكون مواطناً ماكوندياً، فهذا الكولونيل وأسماكه الذهبيَّة، ينظرُ لي وأنظرُ إليه من نافذة المختبر، بل أكاد أناديه، وأتحدث معه لولا الحد الفاصل بيننا، وها هي سلسلةٌ من الذوات تطارد لحظةً واحدة من الزمن هي اللحظة التي تتعرّف فيها الذات إلى نفسها، لكن من دون جدوى، لأنَّ اللحظة المُطارَدةَ، محكومة بزمنٍ حدده الكاتب وحسم أمره، وعندما تحين فهذا يعني الفناء.. وأرى فراغاً عميماً في القريةِ تمتثل له الذوات خلال مطاردتها واهمةً أنّها بعد قليل ستقترب من اللحظة المنشودة، ويتحقق شرط تأخير تلك اللحظة، فقد كانت كل ممارسات الحب، والابتكارات، وتكرار الأسماء جيلاً بعد جيلٍ محض فراغ قد أبرع الكاتب في زج الشخصيات فيه تأخيراً للحظة حاسمة، وأقف أنا شاهداً على اللحظة التي فكَّ فيها أوريليانو الأخير شفرة رقائق ميليكيادس، وكان قد عرف كل شيء، وتعرف إلى تلك اللحظة التي عرفته بنفسه، وعرف أخيراً أنه لن يخرج من غرفة ميليكيادس، لأنّه كان مقدراً على تلك المدينة -التي ابتدأت بخوسيه وانتهت بأوريليانو الصغير الذي جاء إلى الدنيا مزوّداً بذيل خنزير- أن تنسى تماماً وتفنى من ذاكرة البشر جميعاً، لكن هيهات، فالقرية وهؤلاء البشر الذين عمّروها، والزمن الخلّاق، تظلُّ شاخصةً في الذاكرة، كما لو أنّها جزءٌ من تكويني الشخصي..
(2)
في قريةٍ يركضُ فيها شبحُ حصانِ، هو حصان ميغيل بارامو، وتجري فيها الحياة على شكل أحلامِ يقظة، أو على شكل شرودٍ ذهني، تشعر بالحرجِ وقلة الحيلة، يأخذ القارئ في رواية بيدرو بارامو، صيغةَ الحالم الذي ينشده باشلار، إنَّ التقويسَ الفينومينولوجي، يتم عبر تركِ النص، ومواجهة الخيال وجهاً لوجه..
دفعاً للحرجِ الذي واجهته في قراءة الرواية، اكتفيت بالسحر الخالص لأحلامِ اليقظة، قلتُ لنفسي، لتعيشَ أجواءَ الرواية، ليس بالضرورة أن تفهمها، كن مواطناً من أهلِ القرى، واكتفي بحيرتك، كن جديراً بكومالا، تورط بهذا الفيضِ الساحر من الأحلام والذكريات، وانصت إلى الصوت الهامس الذي يأتي من عمقِ نبوءات الحقول..
العيش في كومالا، لا يختلف عنه في أية قريةٍ حيوية تعيش فيها اليوم، بل إننا نعيشُ حياةً بكل تناقضاتها، وغرابتها، ونموت، من دون أن نعرف من هذه الحياة شيئاً، نأتي من غير فهم، ونمضي كذلك، فلم لا نكتفي بالسؤال..
تعيش كومالا وأبناؤها، في ذاكرتي، كما لو أنني صادفتهم من قبل، بل ربما تعرفتُ إلى وطني الحقيقي، فمنذ ولدتُ، وإلى هذه اللحظة، أعيش بوصفي جسداً، أمام حياتي الحقيقيَّة، فالجزء الأكبر منها، كان في الداخل، ولحظات الفرح الكبرى، تحدث حين أصادف أمرأً يسحبني من الداخل، ويواجهني وجهاً لوجه، ولذلك هي نادرة..
لكنَّ الحياةَ في الأدب، مسكونةٌ بهذا الضرب العميق الخيال، لذا فهو وطنٌ لأمثالي، وليس حكراً لفئةٍ من دون أخرى..
(3)
والحال نفسه، ينطبق على جيكور، جنة السيَّاب، وفردوسه الخالد، كيف يمكن لقارئ السيَّاب أن يظل كما هو؟ وقراءته ورطةٌ وجوديَّةٌ في مكانٍ متخيل، جيكورُ في القصيدة، أمٌّ، أعشاشٌ، وأطيار على السطوح، جيكورُ مكابدة رومانسيَّة يحياها المرء بذهول ودهشة يندر وجودهما خارج القصيدة..
إذا ما دخلنا القريةَ، من شُرفةِ الشاعر، وهي محل ولادته، وفيها ذاكرة شبابه وصباه، أقولُ حين نطلُّ من هذه الشرفةِ، يتبدى لنا عالماً آخر.
لَكأنَ الإقامةَ في القرى شعرياً، تَرَفٌ وجوديٌّ، يتحقق بتوقف الزمن وتأجيله إلى ما بعد العودة.
(4)
وحمدان، لَم تَطَأ قَدَماي أرضَ حمدان، لكن تراءى لي، وأنا أقرأ، كما لو أنني أخترق فردوساً، هنا أتحدث عن قريةٍ حقيقيَّة، هي قريةُ سعدي يوسف، لكنها في المخيال لا تفرق عن أخواتها المُتَخيلات، فكل ما يفتح لي باباً نحوَ الهناءة وراحةِ البال، يكون شبيهاً بالحصن المنيعِ وجزءاً من دفاعات النفس.
لم أتعامل طوال سنوات قراءتي، مع الأشخاص، والأماكن على أنها متخيلة، بل أحس برجفةٍ وخوفٍ إذا ما تفكرتها على هذا النحو. إنّها تحظى في ذاكرتي، بنفسِ الوجودِ الذي تحظى فيه قريتي التي عشت فيها طفولتي وأعيش فيها شبابي اليوم. أحداثٌ تكفلتُ في نجاتي من ساعات بؤسٍ وشقاء، وضاعفت عمري بتجاربَ يندر أن يتحصلها امرؤٌ يجانبها.
(5)
يمكنك أن تولد، في قرية أبو ريشة، من الجهات الأربع، من جهة المشرق حيث يموت النهر، ومن جهة المغرب حيث يولد. ومن جهة الشمالِ حيث تتباين الخطوط البراقة بين الولادة والممات، أما من جهة الجنوب، فالحياة تتقدم باتجاه النهر، الجنوب ملتقى الجهات إذا شئنا وصفاً أكثر تحديداً.
من شارعٍ، متربٍ، ومترعٍ بعدم الوضوح، يمكنك أن تستأنف حياتك من حيث توقفت، الحياة تتوقف دائماً في الشوارع، إما لعبور المارة، على حياتك طبعاً، وإما لعبور السيارات، على الحياة التي تنظر.
أتذكَّرُ شجرةً، عمَّرت، في الشارع المذكور، لسنوات طويلة، حتى تحولت إلى فضيحة سافرةٍ من التراب، إلى درجة أنك، تحتاج إلى أكثر من نهر، لغسلها، لكنَّ الحلَّ، كان بتجريفها، كان ينبغي أن تولد بهذه الطريقة.
يمكن للمرء، في القريةِ هذه، أن يشهد تطورَه بشكلٍ لا يثير الريبة، عبر تملصه من بشريّته والنظر إلى جسده من الخارج.
لكنه في قرىً مجاورة، يتحد ببشريته، ولا يشهد، من ثم، تطوره الخاص، إنّما ولادته تنتهي بشكل يثير الفزع، يولد المرءُ حين يرتئي انتظار لحظةٍ تافهة، مثل نبتة بريّةٍ لم يرها أحدٌ قط.
*
يخيّل لي، أن هذا النهر، الذي يفصل القريةَ عن المغيب، ملَّ من طفولته الدائبة. لكني- في كهولته-أخاف عليه من النسيان.
تتمرأى القريةُ، على صفحةِ النهر، منبهرةً بصدودها عن معولِ الزمن، بالولادة، تجابه قرىً مجاورة.
للقرى أسرارها
وفي باطن هذا النهر
تكمن أسرار الدنيا.