نقد النقد الأدبي ثانية

ثقافة 2025/02/04
...

   د. عبد العظيم السلطاني

في 25 / 12 / 2024 انعقد المؤتمر التأسيسي "نقد النقد الأدبي.. التنظير والإجراء"، وفي حينها قدم معرفة للمعنيين بفكرة النقد، من خلال الدراسات والأوراق النقديَّة التي قدمت فيه، وأغنتها التعقيبات والأسئلة والحوارات التي تحققت في المؤتمر. وها هي غاية المؤتمر الاستراتيجية تتحقق أيضا. وأعني بها إعادة نقد النقد الأدبي إلى واجهة المشهد الثقافي، كي يكون موضع نقاش ومساحة تقال فيها الآراء المتوافقة أو المتقاطعة، فكل ما هو فكري نافع. ومنذ انعقاد المؤتمر وحتى الآن كتبت مقالات ونشرت آراء، كان نقد النقد موضوعاً لها.

أملي أن تُشذّب تلك الأفكار والآراء من غاياتها الشخصية وحساباتها الضيقة، وأن يكون ما يُنشر منها غايته علمية يتحقق فيها الإثراء والتفضية وضبط المفاهيم، وتُقدح فيها العقول لتُنتِج الفكر النافع الذي يمكث في أرض الثقافة والنقد. والنقد في أصله فكر يُسائِل الأدب ويُحلّله، وكلُّ فكرٍ تهمّه فكرة المراجعة الدائمة والحوار

البنّاء.

ولكن ليس لنا أنْ ننسى أنّنا في بيئة ثقافيّة ما زالت فيها الفكرة ابنة المفكر، يحميها ما دام قادراً على الحماية، وليست نتاجاً لعقل في سياق معيّن!، وما زالت مناقشة الرأي إساءة لصاحبه!. 

قدّم الناقد فاضل ثامر محاضرة في افتتاح مؤتمر نقد النقد الأدبي، وأجهد نفسه في تتبع آراء قيلت في نقد النقد، ثم نشرها في مقال في جريدة "الشرق الأوسط"، وكتب الدكتور سلمان كاصد مقالة على تلك المقالة، نشرتها جريدة "الصباح". 

وأثارت مقالته ردوداً وتعليقات.. وفي مقالته تناول أكثر من مسألة، وسأقف في مقالتي هذه عند تصوّر دافع عنه في مقالته يتعلق بربط نقد النقد الأدبي بالفلسفة وكأنّه ابنها. وهو يجد هذا أمراً غير صحيح. ولا شكّ في أنّ اعتراضه صحيح، حين تكون الغاية تمييز نقد النقد الأدبي عن غيره. ولي بحث في كتاب "المعوّل عليه.." الذي ضمّ دراسات المؤتمر، تناولت فيه هذه المسألة بكثير من 

التفصيل. 

فـ "نقد النقد الأدبي" ليس خطاباً فلسفياً ولا ينتمي إلى الفلسفة، إنّما هو خطاب نقدي ضمن حقل الأدب، وهو ابن النظرية النقدية المتعلقة بالأدب ونقده، وليس في أصل واجبه ومسوغات وجوده أن يساوي بين نصوص الأدب وبين نصوص في تخصص الفلسفة أو علم الاجتماع أو التاريخ وغيرها. فثمة خصوصيَّة لطبيعة النص الأدبي الذي انبنى عليه النقد ثم نقد النقد. ومن هذه الخصوصية اكتسب نقد النقد الأدبي خصوصيته. 

الإسراف في ربط نقد النقد الأدبي بالفلسفة أمر غير علمي. وهذا لا يعني الايحاء بقطع الصلة بينها، لا تاريخيا ولا من حيث التأثّر الحالي. ولي أن أقسّم العلاقة بين الفلسفة ونقد النقد الأدبي على ثلاثة 

مستويات: 

1- المستوى التاريخي، أي أصل النشأة الأولية، حين كانت الفلسفة تسمّى أم العلوم كلّها. وهنا سيأتي النقد وكذلك نقد النقد مع سائر العلوم التي أثّرت الفلسفة في وجودها. 

وهذا لا يعني أن نقد النقد الخاص بالأدب وُلد من رحم الفلسفة حاملاً جيناتها الأساسية وظلّ معبّراً عنها وكأنّه ابنها الوفي الذي لا يستطيع أن يعبر عن نفسه خارج معناها 

وتوجيهها. 

2- المستوى البينيّ، وأعني به الحالة البينيّة الممتدة من الماضي حتى الحاضر، حيث الفلسفة تحرّض على التفكير وعلى الارتقاء بالفكر النقدي، وفي كل تخصص. وهذا أمر لا يخص نقد النقد وحده، إنّما هو مشترك مع النقد في هذا، وسواء أكانا في الأدب أم في نصوص التاريخ أم نصوص علم الاجتماع أم  نصوص الفلسفة وما سوى ذلك. وهذا أيضا، لا يعني أن نقد النقد الأدبي ينتمي إلى الفلسفة أو أنّه خطاب فلسفي. وقد نضيف سمة "العمق"، وهي الصفة التي التصقت بالفلسفة وصار وجودها في أي نص يشير إلى تأثّر ما بالفلسفة بوصفها مُصدِّراً لفكرة العمق ومحرّضاً عليها. لكن سمة العمق في نقد النقد الأدبي لا تعني، أيضا، أنّه خطاب فلسفي، فالعمق سمة العلم أيضا.

3- الحالة الحاضرة، وفيها موضعان يَعْبُر فيهما نقد النقد الأدبي نحو الفلسفة ليستفيد منها. الأول حين يذهب نقد النقد الأدبي ليناقش المناهج النقديَّة، لأنَّ المناهج تستند إلى تصوّر فلسفي معيّن، ومناقشة منهج وإبداء رأي فيه يستدعي معرفة بفلسفة ذلك المنهج النقدي والفلسفات المتعلقة به. 

وهذه أيضاً من المشتركات بين حقول تخصصيَّة متنوعة، قد توزِّع الفلسفة اهتمامها بها وبحسب حاجة الحقول إليها. فعلم الاجتماع يستند إلى الفلسفة في بعض اشتغالاته، وعلم التاريخ يستند إلى الفلسفة في بعض اشتغالاته، شأنهما شأن علم نقد الأدب أو نقد النقد الأدبي.

والموضع الثاني في الجانب التطبيقي لنقد النقد الأدبي، الذي يَعْبُر فيه إلى الفلسفة يكون حين يُسائِل نقداً تناول مسألة فلسفيّة تحدث فيها النص الأدبي الإنشائي، أو أنّ نقد الأدب اكتشفها في النص الإنشائي من خلال التأويل، مثلا.

 ناقد النقد الأدبي ليس فيلسوفاً، والفيلسوف ليس ناقداً للنقد الأدبي. وكلّ منهما له مهامه وأسئلته. ومهام الفلسفة غير مهام نقد النقد الأدبي. وليس بخافٍ بأنَّ مهام نقد النقد الأدبي متعدّدة، فهو ينظّر في أسس نقد الأدب والنظرية النقدية، مثلما ينظر في ذاته فيراجع مفاهيمه، وينظر في ما أنجزه وما يمكن أن يُنجزه، انصياعاً لمنطق الحياة المتحرّكة وسنن التطور وإمكانية التطوير. 

والناقد بمعناه المجرد أصلاً هو المخوّل بالحديث عن الأدب ونقده، وليس الفيلسوف. فالفيلسوف بمعناه المجرّد "أي ليس الفيلسوف والناقد في آنٍ واحد" غير مؤهّل للحديث عن نقد الأدب أو نقد نقد الأدب. لأنّه في مهامه الفلسفيّة ليس بحاجة لفهم تفاصيل الفنون الأدبيّة والنصوص الأدبيّة وطبيعة نسيجها، وغير معني بنظام الفنون الأدبيّة ولا بتاريخها، إنّما هو يبحث في الأفكار

الفلسفيّة. 

وسؤال نقد النقد الأدبي ليس فلسفياً، سواء أكان في المستوى الإجرائي وهو يحلّل نصاً نقدياً أو حين يُنظّر لنفسه أو لنقد الأدب. فهو نص نقدي قائم على معرفة بطبيعة النص الأدبي وبالإجراءات المناسبة لتحليل ذلك النص. وكذلك الأمر حين يُنظِّر، فسيكون سؤاله الأساس متعلقاً بخصوصيَّة الأدب وخصوصيَّة النقد القائم عليه، أما الجانب الفلسفي للمناهج فهو جزءٌ، وليس سؤاله المركزي وسر وجوده.