روبرتو فيري.. سيمياء الجسد

ثقافة 2025/02/05
...

رامية منصور

“هذا العالم هو حقاً كائن حيٌّ يُرزق روحاً وذكاءً.. كيان حيٌّ واحد ظاهر يحتوي على جميع الكيانات الحية الأخرى، والتي هي بطبيعتها جميعها متواصلة. “

 أفلاطون

 قد يظن المتلقِّي السطحي أعمال الإيطالي روبيرتو فيري حشداً من مشاهد العُري لكن المعطيات التي ترصدها العين الخبيرة أبعد ما تكون عن ذلك.. إننا نتعاطى هنا مع كيانات لحيوات تشكل مَشهدية الجسد التي تتراجع فيها الغرائزيَّة إلى الصفوف الخلفية في مسرح تتحرك على خشبته المعتمة، قصداً، معماريات لقصص الأجساد وتفاعلاتها مع بعضها أولاً ومع القدر الذي أوجدها في هذه الكينونات المفعمة برغبة البقاء والخلود وما من سبيل لذلك برغم تصارعها الرومانسي في لوحات فيري وعزلتها لا عن محيطها بل، وكما يبدو، أنها عزلة أكبر.. إنها عزلة كونية.. تغريبة الوجود الإنساني الذي تحرقه لوعة الحياة وكآبة الوحدة مهما كثر أمثاله فهذه الوحدة إنما هي قابعة في أعماق روحه.

 يعتمد فيري عائلة لونية محددة انتقاها وفق رؤيته اللونية السيميائية لا يفرط بها وهي برأيي ليست من الأمور التي يؤاخذ عليها كونها منسجمة والمشهد المعماري للوحاته تُضاف له الروحية التاريخية التي تُعيد الأفكار إلى زمنٍ ماضٍ يدركه الفنان وتنبثق منه حركية الاأجساد التي وإن اتصفت بالمثالية  بيد أن فيري ضغط بذكاء على بناها الهيكلية والعضلية لتكون أقرب للواقع منها للمثالية الإغريقية التي تشكل مرجعية المثاليين الغربيين.

 لا يمكن تصنيف فن روبرتو فيري ضمن الفن الكلاسيكي الذي يظن المتلقي عادة أن مجرد كسر قواعده ينقلنا إلى الفن المعاصر .. فرغم استعانة فيري بتقنيات أساتذة الرسم القدامى لكنه أضاف لمسته الخاصة في مواضيعه التي وإن كانت ترينا مادة ذات صبغة دينية وأسطورية، بيد أن روبيرتو حقنها بعناصر معاصرة من الرمزية والسريالية.  

لا يخفى تأثر روبيرتو فيري بكلٍّ من ويليام أدولف بوجيرو ودييغو فيلاسكيز ومايكل أنجلو كارافاجيو وهذا يتجلى في دراساته التشريحية الدقيقة جداً والتي تقرِّبه من الواقعية المفرطة إلا أنه ليس واقعياً مفرطاً. إن الدقة التشريحية هي بصمة موجودة في جميع لوحات فيري كما نراه يقوم على الدوام بتوضيح تفاصيل العناصر الصغيرة، مثل الشعر والجلد والنسيج بدقة، إضافة إلى واقعية مقنعة لوجوه شخصياته معبراً عن ملامح قوتها أو ضعفها.

استخدم فيري الضوء لخلق عمق وإحساس ثلاثي الأبعاد مانحاً كتل الأجساد التباين المثالي بين الضوء والظل مجسِّداً الشخصيات البشرية وعلائقها مع محيطها ليقوم بتوجيه انتباه المشاهد إلى حيث يبتغي. تسلط إضاءة المشهد الدرامي أيضاً على النواحي العاطفية لمواضيعه الرئيسة أو شخصياته، سواء كانت تحمل تعبير العاطفة أو الشهوة أو الألم أو العذاب، على خلفية مسطَّحة وغير شفافة نسبياً. 

يعتمد روبرتو فيري على التأسيس أحادي اللون على قماش اللوحة المطلي لتحقيق هذه النتيجة. ثم يقوم فيري بعد ذلك بوضع طبقات من الألوان لإنشاء عمق مع التزجيج بدهانات رقيقة وشبه شفافة بشكل متكرر. تسمح له هذه الطريقة بتكوين مشاهد ثلاثية الأبعاد وحيوية كما نبصر بعينينا.

تجمع لوحات فيري بين التقنيات الأكاديمية والسريالية لخلق حوار جميل بين القديم والحديث. إنه يضع جسم الإنسان كموضوع محوري لفنه وليس مجرد ثيمة، حيث يقدم الجسد البشري بحركات توجهك صوب الأحلام والروحانية والأساطير. من الناحية الفلسفية ما من شكٍّ في كون الجسد يشكل الواجهة الأولى لتعبير الإنسان عن وجوده وكينونته، وهو المادة الموازية والمرافقة للروح والذات الباطنية للإنسان، وهو يتجاوز السطح المادي الظاهر لأنه يحمل بين طيَّاته أسراراً وتفاصيل لا تظهر للعين المجردة، إنها تلك التساؤلات والانفعالات التي تنبض بالحياة، وهذا ما يبحث فيه روبيرتو فيري ليعبّر عن المشاعر والأفكار والتجارب والتاريخ الخاص بكل جسد.. تساؤلات وانفعالات في أعماقنا تتعرض للكبت والإخفاء والإنكار يعمل فنانون مثل فيري على منع تاريخ المشاعر الإنسانية هذا من التلاشي في عدم النسيان.