مَن يشتهي المنية مثل أكلة طازجة؟

ثقافة شعبية 2019/07/05
...

سعد صاحب
لا يشتهي الموت الا الاقوياء، او الحزانى الذين يعانون من حالات نفسية شديدة، ومن عاش الصعوبات والمخاطر والتهديد لا يخشاه، وتبقى الغالبية العظمى من البشر تخاف، من ذلك الزائر المريب الذي يقبض الارواح بلا استئذان . هكذا هي الحياة تواصل خطاها الراكضة بلا وقوف، ما بين اشتعال وانطفاء، ما بين ولادة طفل يستقبل الدنيا بصرخة طويلة، وشيخ يغمض عينيه على حلم جميل . 
 
 نهاية
الاشتهاء شيء مرتبط بالغذاء الطيب المذاق، ولكن الجديد المدهش في هذه الصورة الشعرية الغريبة، ان يكون التشهي لقاهر الرجال الاشداء، لان الشاعر وجد فيه الخلاص، من كل العذابات والمحن والامراض والمواجع . الشاعر يريد النهاية في ارض الوطن، بين احضان الاهل والاصدقاء والخلان والاحباب، وليس في الغربة واشتراطاتها المدمرة، ومن عجائب الامور يكون الردى امنية، لكل عاشق ضاق ذرعا بالالم والداء والمعاناة والحنين . 
( اشتهيت الموت / اشتهيت الموت / مثل اكله اشتهيت الموت / مثل واحد يحبله ابنيه بالبصرة / وهو بيتهم بالكوت ). 
 
  بغداد 
الغريب لا يشعر بالسعادة لو عاش في النعيم، والغريب كائن مرتبك خائف زائغ النظرات، لكون الابتعداد عن الوطن يثير فيه حساسية من كل الاشياء، حتى من النظرة والكلام والسؤال والاشارة والالتفات والصياح . العجيب خضير هادي متعلق بالحياة الى حد الجنون، وهو يدري انها لا تتكرر مرة اخرى، فتصور اي بؤس عميق يدفعه صوب الممات . طاف في العديد من البلدان الجميلة، المميزة بالخضار والحدائق والاجواء الخلابة الباردة، لكنه لا يستعذب سوى دخان مولدات العراق العاطلة، ولا يعشق سوى لهيب الصيف في بغداد، ويحسب غبارها المليء بالتراب والحصى الناعم، ينعش القلب المرير اكثر من نسائم المدن الغريبة . 
( بالغربه ويجيني الصوت / وين انت اشتهيت الموت / وين انت تريد الموت / بنص بغداد اريد الموت ). 
 
 مشاعر متضاربة
خضير في هذه القصيدة يطرح رايه الواضح بالوجود، وبما يجوش بنفسه من المشاعر المتضاربة، من باب يحلم بالعودة ولا يستطيع، ومن باب يعاني التشتت القاتل المرير، فالابناء الاعزاء في بلد، وهو يدور في اوطان كثيرة، لقراءة الشعر والحصول على المال، وما اصعب مهنة الكتابة في زمان لا يقدر المواهب . 
اجهده الدوران الذي لا يفضي الى راحة، فلاذ بالموت كي ينقذه من الاشواق واللهفة والشقاء والتعاسة، لعله يجد في الابدية الامان والسكون والاستقرار، بشرط ان تمر جنازته الحزينة، على الساحات والمقاهي والمعالم والرموز، وعلى الاماكن التي كان يزورها في شبابه . 
( بنص بغداد اريد الموت / والجناز من يم باب بيتي يفوت / والجناز من يم الرصافي يفوت ). 
 
  هواء
يطلب الميت ان يكون تابوته مفتوحا بلا غطاء، لكي يشبع من هواء مدينته الباسلة، وربما هذا الوجه المبتسم الساخر، يخفي في تجاعيده الكثير من الاوجاع والارهاق والامراض، ومن المعروف دقيقة واحدة في الغربة ، تقابلها اعواما من الحرية والرفاه والهدوء والسعادة . انتفض هادي بقوة على عصره الرديء، اسوة بالشعراء الابطال علي الشباني وشاكر السماوي وصاحب الضويري، ليضع حدا الى هذه المهزلة، ويرقد بسلام في شقوق الارض الطاهرة التي يحبها . 
 ( وطلب اخر اطلبه والحجي بسكوت / لتخلي قبق لو باب ع التابوت / حتى اشتم هوه بغداد / واشهك شهكة اليركض / وماظنهه قضيتي تفض / واكتل غربتي بيدي / واخليهه العيون تنام وتغمض ). 
 
     اضرحة 
الطلب الاخير للشاعر المرور بجنازته، على الاضرحة والاولياء والاقطاب والمتصوفة والدراويش، طمعا بشفاعتهم عند رب كريم، فهم الذين يرفقون به من عذاب العالم الاخر، وهم يحرسون من بهم يستجير، لاسيما شعراء الخوف والجوع والتمرد والرجاء، وكل من مات غريقا او غريبا، او محترقا بنار الوجد والعناء والصبر والاشتياق . 
( يا جناز مر بيه على الكاظم ابو طلبه / حتى اشكيله بيه شسوت الغربه / على الكيلاني مر بيه / على الخلاني مر بيه / على ابو حنيفه مر بيه / وعبرني الجسر للخضر بلكي ارتاحلي شويه ).