نظرية الفوضى وتفسير الأدب

ثقافة 2025/02/05
...

  أمجد نجم الزيدي


يسعى النقد الأدبي الحديث، في إطار النظريات المعاصرة، إلى تحقيق تكامل بين العلوم والتخصصات المختلفة عبر ما يُعرف بالنقد البيني أو العبر- تخصصي (cross-disciplinary)، والذي يُتيح تحليل النصوص الأدبية من زوايا متعددة، مستفيداً من أدوات وأساليب مستعارة من حقول معرفية متنوعة، ومع ذلك، تبدو تطبيقات هذا المنهج في النقد العربي، ولا سيما العراقي، محدودة وتفتقر إلى العمق اللازم، حيث تقتصر غالباً على ما يُعرف بالمنهج الأحادي (uni-disciplinary)، مثل توظيف علم النفس أو علم الاجتماع بصورة مستقلة، أو في بعض الحالات، المنهج المتعدد (multidisciplinary)، الذي يمزج بين عدة علوم كعلم النفس وعلم الاجتماع، على سبيل المثال، في تحليل النصوص الأدبية، كما في كتاب "أسطورة الأدب الرفيع" للدكتور علي الوردي، أو كتابات الدكتور قاسم حسين صالح، أو الدكتور حسين سرمك حسن وخاصة ضمن ما أسماه بـ "علم نفس الإبداع"، أو الدكتور ريكان إبراهيم.

 وقع بين يدي خلال بحثي في هذا الموضوع، الذي أهتم به شخصياً، نسخة إلكترونية من كتاب "الفوضى الجميلة: نظرية الفوضى والميتافوضوية في الأدب الأمريكي الحديث" للبروفيسور الأمريكي الكندي غوردون إي. سليثوغ، والصادر عن جامعة نيويورك عام 2000، والذي يقدم مقاربة نقدية مهمة؛ تستكشف تأثير المفاهيم العلمية على الأدب، مركّزاً على تحويل هذه المفاهيم إلى أدوات استعارية لفهم السرد، بالإضافة إلى أوجه التشابه بين المفاهيم الأدبية والنظريات العلمية، خصوصاً في مجالات الفيزياء والرياضيات، مما يمنح القارئ تجربة تشبه القراءة العلمية للأعمال الأدبية.

ومن خلال قراءتي السريعة للكتاب وتصفحي لمحتواه، ظهرت أمامي بعض الإشكاليات الجديرة بالمناقشة، حيث يتناول هذا الكتاب قضية ذات طابع فكري معقد تسعى إلى استكشاف العلاقة بين نظرية الفوضى، وهي إطار علمي ينتمي إلى الفيزياء والرياضيات، والأدب الأمريكي الحديث، إذ ينطلق من فرضية رئيسية مفادها بأن مفاهيم نظرية الفوضى يمكن أن تُستخدم كأدوات تحليلية لفهم التغيرات السردية والبنيوية في الأدب، ولكن هذه المقاربة، رغم أهميتها، وموضوعها المثير، إلا أنَّي أجدها –بوجهة نظري بالتأكيد- تثير قضايا نقدية وإشكالات منهجية تتطلب فحصاً متأنياً ودقيقاً.

تتمثل أحد التحديات الأساسية في الكتاب في التبسيط المفرط للمفاهيم العلمية عند نقلها إلى السياق الأدبي، فنظرية الفوضى، بطبيعتها، كما أعتقد، معقدة وتقوم على أسس رياضية وفيزيائية دقيقة؛ إلا أن الكتاب يعيد صياغة هذه المفاهيم لتتحول إلى أدوات استعارية تحليلية قد تفقد في كثير من الأحيان جوهرها العلمي، فعلى سبيل المثال، يُستخدم مفهوم (الجاذبات الغريبة Strange Attractors) وهذا المصطلح هو استعارة من الفيزياء للإشارة إلى أنماط غير منتظمة تظهر في النصوص السردية، مثل السرد غير الخطي، والتكرار غير المنتظم، أو التداخل في الحبكة والذي يبدو عشوائياً لكنه يحتوي على نظام ضمني، وتتم به مناقشة الاضطرابات السردية في النصوص الأدبية، وقد استخدمته، كما يشير الكاتب، الناقدة البريطانية هارييت هوكينز، لفحص العلاقة بين مفاهيم واستعارات نظرية الفوضى واعمال أدبية لكتاب مميزين كشكسبير وميلتون (ص11 من التمهيد)* وهو توظيف يبدو مثيرًا للاهتمام من الناحية الفكرية ولكنه يعاني من غياب الإطار الصارم الذي يحافظ على دقة المصطلح في بيئته الأصلية، هذا النهج يجعل القارئ يتساءل عن مدى جدوى نقل هذه المفاهيم إلى الأدب دون أن تفقد طابعها العلمي الأساسي.

 يعتمد الطرح النقدي في الكتاب، أحياناً، على استنتاجات تخمينية تبدو أقرب إلى التأملات منها إلى الحجج المدعومة بشكل كافٍ، فمثلاً، ربط بنى السرد المجزأة في الروايات ببعض خصائص الأنظمة الفوضوية (ينظر: ص147 وما بعدها)، قد يبدو هذا الطرح مثيراً من الناحية النظرية، لكنه، باعتقادي، يفتقر إلى إطار منهجي يبرر هذه المقارنة بشكل قوي، إذ يغيب عن الكتاب الانضباط المنهجي الذي يجعل هذه الروابط أكثر إقناعاً من الناحية التحليلية، مما يؤدي إلى استنتاجات جزئية غير مكتملة، ويضعف الحجة الرئيسية التي يحاول الكتاب بناؤها.

 من ناحية أخرى، يُظهر الكتاب تبايناً ملحوظاً في مستوى العمق بين فصوله المختلفة، ففي حين تُقدم بعض الفصول رؤى تحليلية عميقة ومهمة، تبدو فصول أخرى هامشية وغير متماسكة مع الموضوع الرئيس، هذا التفاوت يجعل النص غير متوازن، مما قد يربك القارئ الذي يتطلع إلى رؤية متكاملة 

ومتماسكة.

يقدم هذا الكتاب مساهمة مهمة في الدراسات الأدبية الحديثة، ومنظوراً جديداً يربط بين النظريات العلمية والأدب، مع أن استخدامه لنظرية الفوضى كعدسة تحليلية يثير الكثير من الاشكاليات التي تتعلق بالدقة العلمية، إلا أنَّ معالجته، بغض النظر عن هذه الإشكاليات تمتاز بالتحليل العميق والرؤية النقدية الواضحة.


--------------------------------

* تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هارييت هوكينز (Harriett Hawkins)، مؤلفة كتاب (Strange Attractors: Literature، Culture، and Chaos Theory)، بالإضافة إلى كتاب آخر يحمل عنوان (The Devil's Party)، هي ناقدة وباحثة بريطانية متخصصة في الأدب والثقافة. ومع ذلك، لم أتمكن من العثور على معلومات وافية حول سيرتها الذاتية أو تفاصيل مسيرتها الأكاديمية، والتي ربما يتم الخلط بينها وبين شخصية أخرى تحمل الاسم ذاته، وهي هارييت هوكينز (Harriet Hawkins)، بروفيسورة متخصصة في علم الجغرافيا.