واو تقتل الإنسانيَّة

ثقافة 2025/02/05
...

  شاكر الغزي 

"الإنسانيّة لا تتجزأ".. "هذا فعل غير إنسانيّ". هاتان وأمثالهما من العبارات التي يتداولها الناس ويستعملون فيها مصطلح الإنسانية وما يشتق منه.

والإنسانية نسبة إلى الإنسان، أو هي ما يجعل الإنسان إنساناً!.

ولكي نعرف ما الذي يجعل الإنسان إنساناً؛ علينا أن نعرف الإنسان أو بالأحرى نعرِّفه.

عَرَّف الإنسانُ نفسَه بتعاريف كثيرة منها: حيوان ضاحك، حيوان منفعل، حيوان كاذب، حيوان مدنيّ بالطبع، حيوان ميتافيزيقي... ولكنْ يظلّ التعريف الجامع المانع الذي عليه مَدار الاتفاق هو: (الإنسان حيوان ناطق).

وناطقية الإنسان يُراد بها التفكير أو العلم أو إدراك الحقائق، وهذه الأمور مجتمعةً يُعبّر عنها بـ(العقل)؛ ولذلك يفضّل بعضهم القول بأنّ الإنسان حيوان مفكّر أو حيوان عاقل.

إذن، بالعقل يكون الإنسان إنساناً، أي بتحصيل العلم وإدراكه وتحويل هذا الإدارك إلى سلوكيات عملية وممارسات أخلاقية.

وهنا يجب التنبّه إلى أنّ مفهوم (الحيوان) مفهوم مُتواطئ بمعنى أنّ الحياة التي في الحصان ــ مثلاً ــ تساوي الحياة التي في الغزال أو في الإنسان. بينما مفهوم (الإنسان) مفهوم مشكّك بمعنى أنه ينطبق على كافة مصاديقه (زيد، عمرو، بكر.. إلخ) بالتفاوت لا بالتساوي؛ إذ أنّ قوام الإنسانية يختلف من زيد إلى عمرو باختلاف القوى العقلية والإدراكات، وكلّما اشتدّت ملَكة التفكير والوعي عند زيدٍ كلّما اقترب من المصداق الحقيقيّ للإنسان أكثر من عمرو.

ولذا قيل أنّ كلّ فرد من أفراد البشر هو إنسان بالقوّة وحيوان بالفعل؛ إذ يحدث أنّ يظلَّ الفرد البشريّ عالقاً في حيز الحيوانية ولا يمتلك القوة الكافية للخروج منها إلى حيز الإنسانية!

وعلى ذلك، فالفعل الإنسانيّ أو الموقف الإنسانيّ هو ما أقرّه العقل السويّ والمنطق السليم.

ومن الخلط الذي يُمارسه البعض أنّهم يجعلون صفة (الإنسانيّ) مساويةً للتعاطف الذي يستثير الشفقة القلبية، أو ما يستفزّ انفعالات الرضا والسَّخط الكامنة في النفس البشرية.     

الإنسانية، إذن، مفهوم عقليّ مرتبط بالمنطق السليم والتفكير الصحيح، وليست تعاطفاً أو تضامناً قلبياً، ولا انفعالاً نفسياً.

وتبعاً لما تقدّم، فما تراه أنت فعلاً إنسانياً، قد لا يراه غيرُك كذلك؛ إذ قد يكمن الخلل في المنظومة الفكرية والمنطق السقيم لأحدكما!. 

ثمّة مفهوم آخر، بعيد عمّا أشرتُ إليه، يتوهّم البعض أنه هو الإنسانية! وربّما يتنطّعون ببضعة كلمات هنا وهناك ويصدّرونها على أنها من صميم الإنسانية ومن ثوابتها الراسخة، ولكنّها في الحقيقة من المفهوم الآخر البعيد، وليست من الإنسانية المحضة، وإن كان بعض كلامهم قد يلتقي أو يتوافق مع ما تقرّه الإنسانية.

والمفهوم الآخر هو (الإنسانوية). وهو مفهوم مطّاط ومن الصعب تحديده، غير أنّ (ستيفن لو) وضع توصيفاً سُباعياً لهذا المفهوم يعتقد بأنّ الإنسانويين يتفقون عليه:

1- العلم، والعقل بشكلّ أعمّ، أهمّ أداة تستخدم في كافة مناحي الحياة، حتّى في المعتقدات، فكلّ شيء خاضع للاستقصاء العقليّ.

2 - الإنسانويون علمانيون.

3 - الإنسانويون إما ملحدون أو لا أدريون، يتشكّكون بوجود الإله والملائكة والشياطين.

4 - الحياة الدنيا هي الحياة الوحيدة، ولا توجد حياة أخرى ولا جنة ولا نار.

5 - الحياة يمكن أن تكون ثرية وذات معنى؛ سواء وُجد الإله أم لا.

6 - تعظيم الأخلاق، والأخلاق عندهم هي كلّ ما يُساعد على الازدهار في الحياة الدنيا لا الحياة الآخرة، بمعنى أنّ الأخلاق تُستمدّ من خلال دراسة الطبيعة الفعلية للبشر.   

7 - الاستقلال الأخلاقي الفردي؛ بمعنى أنّ الأخلاق لا تصدر من سلطة خارجية - زعيم أو عقيدة - بل مسؤولية الأفراد أن يُصدروا أحكامهم الأخلاقية الخاصة. 

وتندرج هذه النقاط السبع تحت فكرة واحدة، وهي الانسياق وراء الطبيعة البشرية، والطبائع هنا هي الميول والغرائز، وليست الأعراف ولا العادات ولا التقاليد، وهذا الانسياق يقتضي رفض المذاهب الإيمانية أو العقائد المُنزلة، وشيئاً فشيئاً صار مصطلح الإنسانوية مرادفاً للاعتقاد اللا إيمانيّ، أو مضادّاً للعقيدة.

وبالخلط بين الإنسانية والإنسانوية؛ جرّ البعض مصطلح الإنسانية للانحياز إلى الخانة المضادّة للعقائد والأديان.