توقعات بتقارب أميركي - إيراني جديد

بانوراما 2025/02/05
...

 سينا آزودي 

 ترجمة: أنيس الصفار

عندما كان الرئيس الأميركي الراحل "ريتشارد نكسون" يعد العدة لرحلته التاريخية إلى الصين سنة 1972 عكف على تدوين مجموعة من الملاحظات بخط يده. من بين تلك الملاحظات هوامش سريعة أدرجها تحت عنوانين؛ هما: "ما يريدونه" و"ما نريده".

 في تلك الرحلة حقّق نكسون ومستشاره الملهم للأمن القومي "هنري كسنجر"؛ الذي رحل العام الماضي، انجازاً تاريخياً بالانفتاح على الصين، تلك الدولة التي بقيت معزولة ومنقطعة عن الولايات المتحدة طيلة عقود من الزمن. ذلك أن نكسون، الذي بنى الشطر الأكبر من مهنته كسياسي على أساس معارضة النفوذ الشيوعي، لا سيما إبان فترة عضويته في الكونغرس ومن بعدها شغله منصب نائب الرئيس، قد اكتسب قدراً من المصداقية يؤهله للتعامل مع الصين دون ان يصمه أحد بالضعف. تلك المبادرة الدبلوماسية الجريئة ما كان بالوسع تقبلها سياسياً من أي رئيس آخر يحمل قدراً أقل من حسن النوايا المتحفظة.

هذا المزيج المتناقض الذي جمع السمعة المتشددة إلى الدبلوماسية البراغماتية هو الذي انبثقت منه المقولة المعروفة: "لا أحد غير نكسون يستطيع الذهاب إلى الصين" التي تبرز الملامح الفريدة للظروف والشخصية التي جعلت تحقيق ذلك التقارب التاريخي ممكناً. فبالنسبة للحكومة الصينية المعزولة، كان التقارب مع واشنطن ضرورياً نظراً لتعمق الخلافات الايديولوجية والجيوسياسية بين الصين والاتحاد السوفييتي مع أواخر أعوام الستينيات، ومن بعدها جاءت الاشتباكات الحدودية سنة 1969 على طول نهر يوسّوري لتذكي مشاعر العداء بين الدولتين. أما داخلياً فقد كان الاقتصاد الصيني يعاني هو الآخر، وكان تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة يعد بفتح آفاق المشاركة الاقتصادية والتحديث العصري.

على مثال نكسون ونظرته المتشددة تجاه الشيوعية عرف الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" على نطاق واسع بمواقفه المتشددة تجاه إيران، فهو الذي انسحب من اتفاقية "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCPOA)ثم أعاد فرض العقوبات الاقتصادية الأميركية في إطار ما أطلق عليه "حملة الضغط الأقصى" بحجة أن إيران ليس أمامها إلا الرضوخ والسعي إلى صفقة "أفضل" طالما بقيت تعاني هذه الوطأة الخانقة اقتصادياً. 

كذلك كان ترامب هو من أقدم على خطوة غير مسبوقة باغتياله قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني شبه العسكري مطلع كانون الثاني 2020.

"لا أريد السوء بإيران" 

إلا أنّ ترامب، رغم خطابه المتشدّد، كان يكرر الادعاء بأنه لا يسعى إلى تغيير النظام في إيران بل يريد إقامة علاقات أفضل معها. 

وفي سياق حملته الانتخابية في السنة الماضية عرّف استخدام الأسلحة النووية بأنه "التهديد المفرد الأكبر للعالم". خلال فترته الرئاسية الأولى حاول مراراً الالتقاء بوزير الخارجية الإيراني آنذاك محمد جواد ظريف لدى زيارته فرنسا خلال آب 2019، كما حاول الالتقاء بالرئيس الإيراني حسن روحاني في أيلول 2019. وبعد مغادرته المنصب عبّر ترامب عن اهتمامه بتغيير صورة العلاقات الأميركية الإيرانية. 

وقبل عودته للمنصب، صرح خلال آب الماضي قائلاً: "لا أريد السوء بإيران.. وعلاقتنا ستكون وديّة، لكنهم لن يمتلكوا السلاح النووي." إلا أن هذا الخطاب الودّي لم ينجح في التجسّد خلال ولاية حكمه الأولى لجملة أسباب. 

السبب الأول هو أن ترامب، حين توفرت لديه الرغبة بالتحدث مع الإيرانيين، كان محاطاً بصقور آيديولوجيين، مثل وزير الخارجية "مايك بومبيو" ومستشار الأمن القومي "جون بولتون" اللذين كانا يلحان عليه منذ سنوات بقصف إيران. 

فقد اقترح بومبيو سنة 2014 مثلاً قصف منشآت إيران النووية قائلاً: "إن كل ما يتطلبه الأمر هو أقل من 2000 طلعة طيران". وكذلك كان بولتون قد دعا ذات مرة إلى قصف برنامج إيران النووي. 

هذان الرجلان كان لهما دور مفصلي بتقويض الدبلوماسية بين الدولتين، مثلاً عندما دعا السيناتور "راند بول" محمد جواد ظريف إلى المكتب البيضاوي في تموز 2019، وذلك بالنيابة عن ترامب كما هو واضح، أعد بولتون خطاب استقالته كما أورد هو عبر مذكراته. 

ورغم أن محمد جواد ظريف رفض تلك الدعوة بناء على أوامر من طهران، وتعرض للعقوبات بسبب ذلك، فإن الواقعة بحد ذاتها تكشف مدى معارضة بولتون لإقامة أي علاقات دبلوماسية مع إيران. 

علاوة على ذلك سلطت مذكرات ظريف، التي نشرت مؤخراً تحت عنوان: "جسارة الثبات"، الضوء على كيفية تدخل بومبيو شخصياً لأجل عرقلة ما سميت "مبادرة موسكو" في تموز 2020 حين اتخذت إيران والولايات المتحدة خطوات متبادلة لحل القضايا المتعلقة بتخفيف العقوبات وبرنامج طهران النووي، بيد أن تلك الفرصة للتوصل إلى حل دبلوماسي بين طهران وواشنطن انهارت من جديد بسبب تدخل كبير الدبلوماسيين الأميركيين.

 السبب الثاني هو أن وضع إيران الجيوستراتيجي إبان ولاية ترامب الرئاسية الأولى كان لصالحها أكثر بكثير مما هو عليه الآن، لذا لم تر طهران حاجة للتحدث مع الولايات المتحدة أو تهدئة التوترات التي شهدتها المنطقة، بل أنها فعلت العكس من ذلك عندما قصد رئيس الوزراء الياباني آنذاك "شنزو آبي" طهران خلال حزيران 2019 للقيام بوساطة بين إيران والولايات المتحدة، حيث رفض المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي بلا مواربة إجراء أي محادثات مع واشنطن قائلاً: "أنا لا أرى ترامب شخصاً يستحق تبادل الرسائل معه، وليس عندي من رد عليه ولن أرد عليه مستقبلاً." 

وجاء أيلول 2019 ليضرب الثوار الحوثيون منشأتين نفطيتين رئيسيتين داخل المملكة العربية السعودية فتسببوا بتعطيل نصف إنتاجها اليومي من النفط. مجمل القول ان طهران اتخذت يومها موقفاً ملؤه الثقة وفرض الوجود مع الاحتفاظ بوضع هجومي يشمل سائر نشاطاتها الإقليمية. ومعه بدأت بتوسيع قدراتها النووية نافضة عن نفسها التحديدات والقيود التي فرضها الاتفاق النووي. 


ولاية جديدة وفرصة متاحة 

تسمح ولاية ترامب الرئاسية الثانية بفرصة فريدة لإعادة رسم صورة العلاقات الأميركية الإيرانية.

فمع غياب المتشددين الآيديولجيين أمثال بولتون وبومبيو عن ادارته عمل ترامب على تشكيل فريق من الموالين له المتوافقين مع رؤيته. هذا التحول لم يزح عن الطريق عقبات كبرى بوجه الدبلوماسية فحسب بل أوجد ايضاً مساراً نحو نهج أعيدت موازنته ازاء طهران يقدّم الاتفاقات والمصالح المتبادلة على التعنّت الآيديولوجي.

إن ترشيح السيناتور "مارك روبيو" وزيراً للخارجية وتعيين النائب الجمهوري "مايك والتز" مستشاراً للأمن القومي يؤكد تفضيل ترامب لحلفاء يشاطرونه رؤيته الأوسع، فقد تطور روبيو، الذي كان فيما مضى خصماً منافساً وواحداً من صقور السياسة الخارجية، ليصبح اليوم مؤيداً قوياً لترامب، بينما جاء والتز بخلفيته التي عرف بها كصقر حيال الصين ومن مؤيدي حملة الضغوط القصوى التي شنها ترامب. 

رغم كل ما ذاع عن كونهما من صقور المتشددين أبدى الرجلان استعداداً لدعم أجندة ترامب، ما رفع احتمالات التوافق على صفقة مستقبلية مع طهران. 

مع ذلك قد يواجه ترامب ضغطاً من الجمهوريين داخل مجلس الشيوخ، مثل السيناتور "توم كوتن" الذي يعد من أعتى المتشددين تجاه إيران. لدى تعامله مع المعرقلين يتطلب الأمر من ترامب الاستعانة بخير ما يتقنه ويجيده، وهو اتباع حسّه الغريزي وعدم الانحناء للضغوط السياسية.

البيئة الستراتيجية لإيران أصابها هي الأخرى شيء من التراجع خلال السنة الأخيرة، ولم تعد تتمتع بحرية العمل التي كانت لها إبان ولاية ترامب الأولى.

لذا لا يستبعد ان تقرر طهران ترجمة وضعها عند العتبة النووية إلى ترسانة حقيقية وتجري اختباراً لسلاح نووي. بيد ان هذا يهدد بتعريضها لخطر تلقي ضربة وقائية من جانب اسرائيل والولايات المتحدة اللتين اعلنتا مراراً أنهما لن تتساهلا حيال بروز إيران المسلحة نووياً.

كذلك تواجه إيران صعوبات فالاقتصاد الإيراني نال منه الدمار جراء سنوات من الضغوط الاقتصادية المشددة، كما فقدت عملتها معظم قيمتها مقابل الدولار. علاوة على ذلك تحتاج إيران إلى استثمارات لبناها التحتية، خاصة قطاع الطاقة. القيادة الإيرانية تدرك جيداً ما يعانيه الوضع الحالي، بل أن الرئيس مسعود بزيشكيان خاض الحملة الانتخابية متبنياً خطاب التفاوض من أجل رفع العقوبات. يرى المراقبون إن نجاح إيران في الثبات بوجه عاصفة ترامب خلال ولايته الأولى قد لا يعني أن ستتحمل اربع سنوات أخرى من سياسة الضغوط القصوى، إلى جانب التوترات الإقليمية. 

لذا قد يبدي الإيرانيون استعداداً للتجاوب لأجل التوصل إلى اتفاق، بل إن هناك دلائل تشير إلى أن مسؤوليهم بدأوا منذ الآن بإجراء اتصالات مع ادارة ترامب المقبلة عن طريق الالتقاء مع "إيلون ماسك" الذي تجمعه بالرئيس ترامب علاقات وثيقة.

تسلط تجارب ادارتي أوباما وبايدن الضوء على التحديات الراسخة التي يواجهها القادة الديمقراطيون في اغلب الاحيان من اجل اختراق الحواجز مع دول تكن العداء لأميركا مثل إيران. 

فقد جرّبت كلتا الإدارتين المذكورتين النهج الدبلوماسي لكنهما تعرضتا للانتقاد بسبب ظهورهما بمظهر الضعف ومحاولة استرضاء إيران، مثل "باراك أوباما" من خلال اتفاقية "خطة العمل الشاملة المشتركة" و"جو بايدن" من خلال مساعيه لاحياء تلك الاتفاقية.

مقارنة بذلك فإن نهج ترامب وإعادته تشكيل فريقه للأمن القومي يجعلان وضعه بما يمكنه التوصل إلى اتفاق مع إيران مثلما فعل نكسون مع الصين. 


أولويات إيران 

خلال أي صفقة مستقبلية محتملة مع الولايات المتحدة ستركز إيران أولوياتها عبر مطلبين اساسيين، هما: تخفيف العقوبات من أجل استقرار اقتصادها، والاحتفاظ ببرنامج محلي لتخصيب اليورانيوم. 

ورغم ان زمن إلزام إيران بالتخصيب عند مستوى الصفر قد ولى وبات من الماضي، يبقى أمام واشنطن مسار التفاوض لفرض حدود مانعة صارمة. هذه الحدود من شانها إبقاء مستوى التخصيب ضمن متطلبات الأغراض غير العسكرية، الأمر الذي سيطيل زمن الانفلات كما سيضمن استمرار الرقابة الدولية النشطة للتحقق من الامتثال. 

عن طريق الموازنة بين اصرار إيران على الاحتفاظ بقدرتها على التخصيب والمخاوف الدولية ازاء الانتشار النووي سيمكن التوصل إلى اتفاق يراعي أولويات الطرفين. 

بموجب اتفاق "خطة العمل الشاملة المشتركة" قدّر لإيران زمن انفلات أمده 12 شهراً (زمن الانفلات هو مقدار الوقت المطلوب لإنتاج مواد انشطارية كافية لصنع سلاح نووي) لكن المرجح الآن هو إنه قد تقلص إلى حدود اسبوع واحد أو اسبوعين. 

لذا ينبغي على واشنطن، كجزء من هذه الجهود، أن تطالب إيران بالمصادقة على اتفاق البروتوكول الإضافي مع الوكالة الدولية للطاقة النووية لضمان قدر أكبر من الشفافية والامتثال.

بعيداً عن الشأن النووي تسعى الولايات المتحدة ايضاً لممارسة الضغط على إيران لجعلها تخفف نشاطاتها في الشرق الأوسط.

يواجه ترامب اليوم، مثلما واجه نكسون خلال مبادرته التاريخية تجاه الصين، لحظة مفصلية تنطوي على إمكانية إعادة تشكيل العلاقات الأميركية الإيرانية وترك بصمة دائمة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. 

بيد أن المصالحة تبقى امراً بعيد الاحتمال نظراً لعمق العداء المستحكم بين واشنطن وطهران، بيد ان الاتفاقات الهادفة القائمة على تبادل المنافع، والتي تعطي الأولوية للمصالح المتبادلة، يمكن ان ترتد بنتائج مثمرة. 

مثل هذا النهج يتيح فرصة لتهدئة التوترات في منطقة الشرق الأوسط واعطاء الولايات المتحدة متسعاً كي تعيد ضبط ومعايرة تركيزها الستراتيجي، خصوصاً فيما يتعلق بمواجهة النفوذ الصيني المتنامي على مستوى العالم. 

ومع ان حل جميع الخلافات أمر مستبعد فإن النهج البراغماتي قد يغير مسار العلاقات الأميركية الإيرانية جذرياً ويدفع إلى الواجهة اهدافاً أميركية ستراتيجية بعيدة المدى في منطقة شديدة التعقيد سريعة التقلب. 


عن مجلة "فورن بوليسي" الأميركية