رعد كريم عزيز
ولد الفنان خضر دحام في قضاء سنجار عام 1972 ليصبح عراقياً في منطقة خصبة بالحكايا العتيقة، ولكن سرعان ما انتقل طفلاً إلى منطقة مجاورة عبر الحدود بسوريا في منطقة الهول التابعة لمدينة "الحسكة" التي يصف فيها طفولته الساحرة بالأخضر من الطبيعة في ريف يتشابه مع سحر سنجار وزهورها. هذه المقدمة لها علاقة ملتحمة لم يتمكن دحام من الفكاك منها،لأن أسرته لم يقطع أفرادها علاقتهم بالرحم الأول في سنجار انحيازا لكيانهم الوجودي ورموزهم المتعلقة بمزاراتهم وسط بيئة مميزة.
لقد كان أمله عند الرجوع عام 2012 بعد الاضطرابات السورية إلى سنجار العراق حاملاً أكثر من 2000 قطعة فنية محتدمة بالألوان الحارة والرؤى أن يسرد كل شيء دفعة واحدة، حيث تظهر لوحاته وكأنها قطعة واحدة ازدحمت فيها أكثر من شخصية ومنظر طبيعي وإشارات دينية ومكانية دائما ما تفضي إلى سنجار ونسائها وشيوخها.
إلا أن عام 2014 طمر ما رسمه تحت انقاض خرائب الموصل بعد سيطرة "داعش" الإرهابي على المدينة، فتمكن بالكاد من أن ينجو مع عدد ضئيل من أعماله، فكانت محطته الجديدة باريس هربا من جحيم أحرق الأرض والإنسان أقمشة الرسم وألوان الطبيعة.
ولأن الفنان قد اعتاد على مغادرة الأمكنة الأولى محافظاً على جذوة الرسم والذكريات الأولى فأن باريس شهدت إعادة انتاجه الفني بغزارة، إلا أنه كان يرسم وكأنه مغمض العينين في شهوة إعادة المكان والأشخاص في حمى محاولة عدم فقدان الختم الأول للأشياء التي شهدت طفولته، وهذا ما يفسر ازدحام أكثر من شخصية في عجينة لونية مكثفة في لوحة واحدة بألوان الأحمر الناري وصراخ الأفواه التي تستمد بصمتها من أعمال لها التأثير على ملمح تجربته المتفردة في استحضار الحرب والسبي وتشظي الأشياء.
وللحيوان حضور في لوحاته، وسط التكدس البشري المتراص في لحظة خوف وجودية لم تترفق بالإنسان، لذا يظهر الحيوان المفترس بلقطة جانبية تفضي إلى تأويلين الأول في لحظة دفاع عن النفس، والأخرى في لحظة هجوم، بينما العين الفاحصة التي تجمع أكثر من مشاهدة للوحات الفنان خضر دحام تميل إلى أن شخوصه دائما ما تحتشد وتتراص في لحظة دفاع عن النفس عبر صرخة احتجاج مشتركة.
توحي أغلب لوحاته بمحاولات التخلص من الرموز المباشرة والوثوب نحو التجريد المطعم بالتعبير، لتكون أعماله شهادة تفيض بأكثر من تأويل، التخلص من المباشرة التي لا يعجز في تصويرها بإتقان واقعي، وكأنه يدافع عن فطرة الرسم وموهبته التي مكنته من أن يحجز له مكانا في المشهد التشكيلي من دون التعكز على الشهادة الفنية، لأنه تخصص في مجال آخر.
لقد أضافت رحلة المنفى الباريسي دفقاً فواراً للانتاج الفني، حيث اشترك في أكثر من محفل والتقى بالفنان خوان خاميخيز حفيد العالمي سلفادور دالي في عمل جداري كبير وعرض في ألمانيا ودول أخرى حاملا معه جذوة الحرقة على مكانه الأول سنجار في العراق.
وحاز تمثاله الذي يحمل عنوان "اوقفوا الإبادة الايزيدية" على المرتبة الأولى في فعالية لجمعية هداسا المناهضة للدفاع عن حقوق الشعوب وحق المرأة ومنع الاتجار بالبشر.
الفنان دحام خضر يسعى في كل تنويعاته في الرسم إلى اجتراح رموزه الخاصة والتمسك برائحة الأرض التي ولد فيها على الرغم من اغترابه، لأنه يعيش في كنف الذين يحاولون الاحتفاظ بوجودهم الأزلي كمشاركين فاعلين في العراق، لذا تجد النساء والشيوخ بأزيائهم التقليدية وسط مكانهم الأثير قرب المقرنصات الشامخة وحيواناتهم المقاتلة في اصطخاب اثيري تجمعه الفرشاة بدون توقف، حيث لا فراغ لوني أو تخطيطي في لوحته، وهو بذلك يعبر عن انفعال محتدم داخلي لم يجد له استقراراً بعد.
يمكننا اكتشاف طبيعة استخدامه للون وزحامه النفسي في تنفيذ لوحات من بقايا الألوان على باليت اشتغاله في لوحة الحصان والرجل الصارخ مستخدما السكين على الخشب، مما يوحي بعدم اكتمال الصرخة الداخلية عند الفنان، وهو يسعى لايصال رسالة متواثبة عن معاناته الداخلية كإنسان وفنان منزوع من أرضه الأم، وكممثل عن طائفة لا تزال تعاني جراح الاجتياح والسبي والتهجير، فهو لا يملك وقتا للترف أو التأمل، بل يلاحق كوابيسه التي يختلط فيها البشر بالطبيعة وكأنهم في حلم دائم للعثور على امكانية الوقوف على الأطراف الإنسانية الطبيعية كبشر لهم الحق في الوجود الطبيعي. الفنان خضر دحام علامة فارقة في الفن العراقي وسط معاناة وجودية مصيرية تمكن من أن يفصح عن ألوانه وخطوطه مع احتدام فني كبير في المشهد التشكيلي العراقي لينطلق من المحلية إلى آفاق خارجية
أرحب.