صعاليك الشعر العراقي

ثقافة 2025/02/06
...

  د. كريم شغيدل


لم أجد في محرك البحث على الشبكة العنكبوتية عن الشاعر عدنان العيسى، إلا مقالة يتيمة كتبها زميله الشاعر عبد الزهرة زكي ونشرها في صحيفة الصباح، يتحدث فيها عن لقائه الأول به في العام 1972 ولقائه الأخير به مطلع التسعينيات، وسبق للعيسى أن أعطاني كراستين صغيرتين فيها بعض قصائده، سلمت إحداهن لعبد الزهرة زكي لغرض نشرها، وقد نشرت فعلاً، ولم يتسنَ لي استردادها، والكراستان على صغرهما تمثلان كلَّ ما كتبه العيسى أيام جنونه وتشرده وتهميشه، يقول زكي"أواخر السبعينيات افترقنا.. لكنَّ أخباراً منه كانت تبلغني أواخر الثمانينيات وتتحدث عن إصابته في الحرب ثم سجنه إثر تغيره فكرياً وشعرياً وتعرضه إلى شيء من اختلال عقلي بدأ يعانيه. يا للهول.. أ بالجنون وحده نرى محنتنا بوضوح؟"، لقد عاد العيسى إلى الوسط الثقافي بعكاز وجسم نحيل وسلوك تبدو عليه علامات الفصام النفسي واضحة، وذلك نتيجة انتقاله "من أقصى الموالاة إلى أقصى المعارضة" على حد تعبير عبد الزهرة 

زكي.

قد لا يشكِّل صباح العزاوي أثراً يذكر في الحياة الثقافية، سوى أنَّه جريح حرب ومن عائلة ميسورة، جاءت به الصدفة إلى مقهى حسن عجمي منتصف الثمانينيات، بعد لقائه بصديقه القديم الشاعر محمد مظلوم من أيام كان لاعباً معروفاً على المستوى الشعبي لكرة القدم، ومع بداية اختياره الشعر هوية لحياته بدأت حالة الفصام النفسي تتزايد تدريجياً، مع محاولات عديدة للانتحار، وبعد سقوط النظام أصبح العزاوي أكثر جرأة في تسويق نفسه شاعراً بعد أن غيَّب تجربته، ومن شعره:

"لم تطل أكداس ثلجك ناري

أنت غزالة غيري في كثبان موحشة

لذا سميتك طريدة وحوش جائعة

كما بلدي الذي يذبح بلدي

بصقيع لا يلسع عدوي المطارد

هل يسعني أن أعلن الحداد عليه

أيتها الواقفة أسفل تل تطرد

رماله العاصفة والصفير

من لي حين الغيوم تطغى وتخرج من 

جسد كتائب المعتزلة حرى النشيد

هل أقول للغزالي إن أبن رشد

يهدم ناطحات سحابك قبل أن تمطر". 

يقول صباح العزاوي في حوار أجراه معه الزميل الراحل يوسف محسن في صحيفة الصباح: "من أنت؟ هل تستطيع تعريف ذاتك؟" على النحو الآتي:

"ــ ربما كنت محض غيمة ربما أحمل الدمن الذي سوف يزيد بساتين النخيل خصوبة وعذوبة، ربما أكون عاصفة أو رعد أو بركان أو حنان المعشوق أكتب في كل مكان في الظلام أو الحلم أو في الحديقة أكتب كلمتي 

الأخيرة".

لقد تحوَّلت ظاهرة الصعلكة أو التمرد أو الشعراء المهمشين، من خيار فردي، إلى ظاهرة جماعية في حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، ومن بين القائمة الطويلة لشعراء الهامش الثقافي في العراق يبرز اسم الشاعر عقيل علي، السبعيني الذي عاش حياته بين أتون المخابز ولهب القصائد، ليخوض في اليومي عميقاً فينشر مجموعتين هما (جنائن آدم، وطائر آخر يتوارى) تعدَّان أنموذجين مهمين لقصيدة النثر في العراق، ثم تبعتهما مجموعة ثالثة هي (حياة تزن طيرانها) ولم ينتج غير ذلك سوى بضعة قصائد متناثرة تخلت كثيراً عن التركيبة اللغوية والتعبيرية لتجربته لاسيما في المجموعتين الأوليتين، ولو أتيحت لعقيل حياة أخرى غير تلك التي انتهت به ميتاً تحت مظلة انتظار باص مصلحة نقل الركاب القديمة في منطقة الكرنتينة، لما خسرنا الكثير من شعره المحتمل كامتداد طبيعي لتجربته الفذة التي لفتت أنظار الشعراء والنقاد على حد سواء، وعلى الرغم مما أثارته تجربة عقيل من لبس عند البعض، تخللتها اتهامات غير بريئة، إلا أنَّ عقيل يبقى علامة مضيئة في الشعرية العراقية، يقول في إحدى قصائده:

لا تستنهض نفسك لغيرِ ما أنتَ مقبل عليه

 كن رفيق عمرك المخلص، ولا تسلم خُطاك لغير صبواتك

كلّ ما حولك، كلّ ما خلفته غير جدير بالتلفّت

 اسرع... اسرع...

 كفاك وهناً

الحكمة غافية

والصباحات تتفاقم.  

كان عقيل علي في قصائده الأخير كمن يرثي نفسه أو يستحضر مشهد موته، إذ يقول في إحدى قصائده التي وجدت بين أوراقه:

أغمضت العينين المغلقتين

ومضيت

بعد انطفائهما

ما زال الانتظار يرتحل قبض رؤاه

في داخل روحك

الى أين تنزل يا عقيل علي

كلا انه الموت في الحياة ، كل رمشة جفن

أهي إذن ما تبقى

كفى... كفى .

ويمثل عبد الأمير جرص أنموذجاً آخر للصعلكة، فهو طالب الماجستير الذي يعاني من خلل في عموده الفقري، أحبَّ وتزوج وكان مقدراً له أن يعيش حياة هادئة، لكنَّه سرعان ما نبذ الحياة العائلية وهاجر إلى عمان ومنها إلى كندا ليسقط ميتاً من مرتفع وهو يقود دراجته الهوائية، ميتة تشبه فنطازيا حياته المرتبكة، يقول في قصيدة "حبيبتي":

أنا من الحيوانات القديمة. النافرة

تلك التي يصعب ربطها..

بمثل هذا الحبل المتين..

  من الحب.

ومثله حسين علي يونس الذي بدأ روائياً لينتهي إلى شاعر يفخر بلقب "الصعلوك"، ومثلما شعره نجد أنَّ حياته مجموعة متناقضات تتأرجح بين القسوة والتطلع لحياة مختلفة خارج المألوف، ومثلما تبدو عليه ميول العنف والحدَّة في سلوكه اليومي، نجده قاسياً في بعض قصائده، لا سيما في استعماله لبعض الألفاظ النابية التي لا تصلح للشعر، إلى درجة إنَّه عنون أول مجموعة شعرية نشرها بطريقة الاستنساخ بعنوان صريح "إساءات" يقول في إحدى قصائده اليومية بعنوان "قرب ساحة النصر":

ما الذي تستطيع أن تفعل بحياتك

أيها الحمار

بمثل هذه السخرية المريرة يجلس الشاعر

متوحدا

محدقا في الظهيرة وهي تتمخض

غير مستسيغ لحياته

التي تتنفس

وتنطفئ في الظلام.

والظاهرة بكلِّ ما تنطوي عليه من أسماء ونصوص، لا يمكن الإحاطة بها بمثل هذه المقالة المحددة، ولا نغالي إذا قلنا بأنَّ تنوع التجارب يقتضي دراستها كلاً على حدة، ويمكن دراسة المشتركات الجمالية والأيديولوجية والاجتماعية وغيرها لهذه الطبقة من شعراء الهامش 

الثقافي.