تقديس العزلة

ثقافة 2025/02/06
...

  حسن الكعبي 


العزلة من المفاهيم الأساسية التي ارتكز عليه الفكر الوجودي، لا سيما فكر "جان بول سارتر" ضمن مقولته الشهيرة "الجحيم هو الآخرون" التي أطلقها، في مسرحيته "الجحيم هو الآخرون" المعروفة بــ "الأبواب المقفلة" المتمحورة حول وصول الشخصيات الثلاث الرئيسة في المسرحية إلى الجحيم، ولترتقي هذه المقولة فيما بعد إلى كونها "المانفيستو" المؤسس للفكر الوجودي بطبعته العدمية التي عززت نزعات الانفصال عن الأخر.

إن مقصديات سارتر في هذه المقولة كما يؤكد "كينت تيون" تتمظهر ضمن توضيحات سارتر نفسه الذي يجيب عن سؤال لماذا كان الجحيم هو الآخرون؟ لأنَّهُ، كما يقول سارتر "عندما نفكر في أنفسنا، عندما نحاول أنْ نعرف أنفسنا، نحن نستخدم معرفتنا لذاتنا التي يعرفها الآخرون عنا مسبقا". وبعبارة أخرى، إذا لم نكن معروفين أو إذا لم يتم التحقق من خصالنا الفردية وأحلامنا والحصول على موافقة الآخرين عليها، فإننا غالبا ما نشعر بأنَّ وجودنا له معنى أقل أو حتى أنَّهُ لا قيمة له.

 استنادا إلى أقوال سارتر في مقولته الأساسية الجحيم هو الآخرون والتي تُعَدُّ من المقولات المركزية للتفكير بالوجودية والتي تتصدى لمفهوم وضع الإنسان وعلاقته بالآخر الاجتماعي فإنَّ هذه الأقوال تؤكد وجود حالة صداميه بين الأنا والآخر من خلال محاولة الأنا في التعرف على ذاتها من خلال انطباع الآخرين عنها وما يصدر من انطباع الآخر يكون بمثابة جحيم الأنا؛ لأنَّها في إطار هذا التعرّف تشعر أنَّ انطباعاتها وخصالها الفردية لن تعود مطابقة لتصورات الأنا، فالآخر هو الذي يحدد ملامح الأنا وسماتها وخصالها ولذلك تشعر الأنا بجحيم هذا التصور الذي يحدد 

حريتها.

إن العزلة بهذا المعنى تأخذ منحى التسامي الذي يرقى إلى مستوى الحرية الكاملة التي تستوجب التقديس كما عند "اميل سيوران" الذي يربط العزلة بالفن والأدب، بل أنه يجعل من العزلة مقدمة أساسية في مفهوم الإبداع والخلاقية الإبداعية في الفن والأدب بشكل عام، حيث تتجلى عزلة الكتابة عند "سيوران" بطريقة فريدة من نوعها، وهي تنفتح على عناصر الشعور، والإحساس، والهوس، والصورة، والرمز، والفكرة، والمفهوم.. إنَّها نوع من الاستبصار عبر الوجود والوعي. 

العزلة مع الذات، والإحساس بها إزاء الآخرين والأشياء. وتتجلى قوة الاستقلالية بأسمى صورها، ساعية إلى معالجة المحن التي يواجهها الإنسان المعاصر. وهذا الشعور بالعزلة غير قابل للذوبان أو الزوال، بل ينفتح على ذروة داخلية مأساوية ذات أبعاد كونية، وهي فلسفة الانفصال عن الآخرين، والصفاء مع الذات. ويتفق  "سيوران" مع "صاموئيل بيكيت" في أن "مارسيل بروست" هو أول كاتب جعل "الفن يقدّس العزلة". ولَعَلَّ هذه العزلة تجعل سيوران يبحث في تصوره عن معنى آخر للصداقة والآخرين، وعن مواجهة الواقع بأفكار أخرى، ترتكز على تصورات كل من (كيركغارد، شوبنهاور، نيتشه، سارتر، هايدغر)، وإلقاء الضوء على أفكارهم حول مفهوم العزلة (ينظر: سيوران... صانع العزلة، شاكر نوري، مجلة دبي، الثلاثاء ،5ايار، 2020، العدد4 1513).

أنَّ عزلة سيروان بهذا المعنى هي تمجيد وتقديس لمفهوم العزلة في انفتاحها على مفهوم التسامي والصفاء مع الذات،والحرية المطلقة للخيال، لذلك فإنَّ العزلة عند سيروان هي عزلة مقدسة وخلاقة وهو ما يجعله يتفق مع مارسيل بروست في مقولته المذكورة "الفن يقدس العزلة" ولذلك فإنَّ سيروان يقيم اتصاله وتصوراته مع الفلاسفة الذين يمجدون العزلة بوصفها مفهوما خلاقا ومقدسا.

تتصل هذه التصورات- أي تصورات سارتر وسيروان حول مفهوم العزلة -عند نيقولا برديائيف بالرفض، فهي كما يرى، تعزيزا لأشكال و مفاهيم العدمية التي تؤدي إلى الفردانية المفضية إلى إقصاء الآخر وعدّه جحيما كما عند "سيوران وسارتر"، وفي تصوراته فإن ثمة فرقاً بين مفهوم تجوهر الأنا الناجم عن النرجسيات الاستبعادية وبين والوعي الذاتي الذي يحرر الأنا من العزلة حيث يقول"الوعي الذاتي يقتضي الشعور بالآخرين، فهو اجتماعي في أعمق أعماق

طبيعته. 

وما دامت حياة الإنسان تعبيرا عن الأنا، فإنَّها تفترض وجود الآخرين، ووجود العالم، ووجود الله. وانعزال الذات انعزالا مطلقا ورفضها الاتصال بأي شيء آخر خارجها أو "بالآخر" هو عبارة عن انتحار. ووجود الأنا يصبح مهددا كلما أنكر الوجود الكامن فيها لذات أخرى.

إنَّ عملية فهم الذات ووعيها لا يتحقق إلا من خلال إحالة الانا على الظاهرة الاجتماعية فهي الوسيلة التي يتكشف بها سر الكون، فالأنا ليست فردية كما يتم تصورها، أو انها بحسب تعبير الفيلسوف العظيم "فيخته" ليست أصيلة لأنَّها كلية أكثر من أنْ تكون فردية"، (العزلة والمجتمع، نيقولاي برديائف، ترجمة: فؤاد كامل عبد العزيز، مكتبة النهضة المصرية، 1960: ص112 وص113).

 تقوم فرضيات برديائيف على رفض مفهوم العزلة ضمن التصورات العدمية التي قدمها سارتر واميل سيروان وأفكاره بالأساس قائمة على تحرير الأنا من العزلة حيث إنَّهُ يرى أنَّ من ضرورات الوعي الذاتي هو الشعور بالآخرين ولذلك فإنَّ برديائيف في تنظيراته يمجد الصلات الاجتماعية ويقيم لها وزنا بوصفها اي الصلات التعبير الأكمل عن الوجود بشموليته وعليها تتحدد وجود الأشياء، فالعزلة عنده استنادا إلى ذلك هي انتحار، وعن طريقها يصبح وجود الأنا مهددا ومعرضا للخطر.