المعادلة الصعبة بين العقيدة الصهيونيَّة ومشاريع أميركا
![...](/uploads/posts/2025-02/7551a902-1e98-42c4-beb4-fa4e85108051.jpg)
جواد علي كسار
بنظرة مباشرة؛ يتلخص واحد من أبعاد العقيدة الصهيونية في لحظتها الحاضرة، بوجود "فائض سكاني" في غزة يتطلب تقليص عدد السكان الفلسطينيين؛ إلى جوار تصور يتقدم عليه في الأهمية، يذهب إلى أن "أرض" الضفة الغربية، هي ضرورة بالغة الأهمية للأمن الإسرائيلي. وبين تقليل سكان غزة والسيطرة على أراضي الضفة الغربية؛ تحرّكت استراتيجيات تل أبيب عبر العقود الثمانية الأخيرة ولم تزل، تحت مسميات "يهودا والسامرة"، وتطورت من خلال "نهج الضاحية" ثمّ "عقيدة جباليا" و"خطة الجنرالات" وغير ذلك من التسميات، التي تدور حول الهدف نفسه، تعضدها وتدافع عنها مشاريع أمريكا وخططها في التسوية، أو أبرزها.
مشروع أراضي الضفة
في ظلّ حركة الوقائع اليومية في غزة ولبنان وسوريا وعموم المنطقة وتحت ضجيج وصول ترامب إلى السلطة؛ مرّ بهدوء يوم الأربعاء 29 كانون الثاني الماضي، خبر إقرار الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي، مشروع قانون يلغي حظر بيع أراضي الضفة الغربية، ليصبح متاحاً بيعها للمستوطنين، وليس فقط تأجيرها.
ما هو المغزى العميق لذلك، وما هي خلفية القرار؟ كان بيع وإيجار هذا الصنف من أراضي الضفة الغربية يخضع إلى القانون الأردني؛ قانون رقم 40 لسنة 1953م المعمول به حتى اللحظة، بالإضافة إلى القرارات العسكرية التي صدرت من تل أبيب وأعطت «الإدارة المدنية» إعادة تكييف القانون الأردني وتفسيره على نحوٍ يتلاءم مع متطلبات الاستيطان، تحت ذريعة "الحاجة أو الضرورة الأمنية" وفق تفسيرات المحكمة الإسرائيلية.
كان سريان القانون الأردني يُعدّ نحواً من الحصانة النسبية لأراضي الضفة، وإن كان لم يمنع قضمها التدريجي والسيطرة المتراكمة عليها، وفق الاستراتيجية الاستيطانية. لكن مع القراءة التمهيدية وما يليها من تحويل مشروع القرار إلى قرار ناجز، يمكن أن ينقلب الموقف رأساً على عقب، بما يمهّد لاستملاك أراضي الضفة وضمّها إلى "إسرائيل"، تحت غطاء قانوني من السلطة التشريعية الإسرائيلية.
صحيح أن خريطة التصويت تؤشر لوجود صعوبات باتجاه إقرار القانون عبر الأصوات الممانعة والمعارضة، لكن حقيقة لستُ أدري تماماً، إلى أي مدى يمكن التعويل على هذا الرهان وحده، في كبح هذا التوجّه الاستيطاني الاستيلائي المقنّن؟ بحسب الأرقام؛ بادر إلى تقديم مشروع القرار للقراءة التمهيدية عضو الكنيست شلومو سلمون من كتلة "الصهيونية الدينية"، وقد أيّد القانون (57) نائباً من كتلة الائتلاف الحاكم، وكتلة "إسرائيل بيتنا" ونائب منشق عن كتلة "يوجد مستقبل" المعارضة. فيما عارض القانون (33) نائباً من كتل: "الجبهة الديموقراطية والعربية للتغيير" و"القائمة العربية الموحّدة" و"يوجد مستقبل" و"العمل" فيما تغيّب عن جلسة التصويت أعضاء كتلة "المعسكر الرسمي" المعارضة، التي يرأسها بني غانتس (يُنظر في التفاصيل: مركز مدار، 30 كانون الثاني 2025م).
نهج الضاحية
ترتكز الاستراتيجيات في العادة إلى عناصر ثابتة وأُخر متحرّكة، وبقدر ما تستند إليه الاستراتيجيات الإسرائيلية إلى عناصر ثابتة، فهي تفرز في المجالات المتحرّكة قدراً غير قليل من العناصر المشتركة. وهذا هو الحال الآن في الاستراتيجية الصهيونية، فهي تتجه في العنصر الثابت إلى التطبيع مع الأنظمة في المجال الإقليمي، بينما تتحرّك بمسميات عديدة في الميادين والساحات، ولاسيّما ساحة غزة والضفة والجنوب اللبناني وضاحية بيروت، وذلك لما يحقق المقاصد الكبرى للأمن الإسرائيلي، بما في ذلك تقليص سكان غزة والقضم المتواصل لأراضي الضفة الغربية.
عند هذه النقطة يواجهنا في ميدان الفكر الأمني الاستراتيجي لتل أبيب، مصطلحات "نهج" أو "عقيدة" أو "استراتيجية" الضاحية. المقصود بها الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، الحاضنة الكبرى لحزب الله والبيئة التي تعكس قوته الشعبية والسياسية. يعود المصطلح إلى الجنرال غادي أيزنكوت القائد الأسبق للمنطقة الشمالية، وقد نشأ أثر مراجعة دامت سنتين وأكثر ونقاشات أعقبت حرب تموز 2006م، انتهت فيها الاستراتيجية الإسرائيلية إلى تبني وإقرار "نهج الضاحية" وتعميمه إلى قرى الجنوب اللبناني.
يتحدّث القاموس الإسرائيلي عن (160) قرية شيعية في الجنوب اللبناني تابعة إلى سلطة حزب الله، وقد تحوّلت على حدّ التوصيف الإسرائيلي نفسه، إلى: "قرى صواريخ أرض – أرض"، يتلخص الموقف الإسرائيلي منها ومن جنوب بيروت، بحسب استراتيجية ونهج أو عقيدة الضاحية، إلى مواجهة أي إطلاق صاروخ منها، إلى الردّ العنيف غير المتكافئ والتدمير الكامل بحيث تبدو غير قابلة للسكن ومكلفة للإعمار، وبتعبير الجنرال غادي أيزنكوت نفسه: "أنا أسمي ذلك نهج الضاحية. إن ما حصل في بيروت خلال حرب لبنان الثانية سنة 2006م، هو ما سيحدث في أي قرية (لبنانية) يتم منها إطلاق صواريخ على إسرائيل". يضيف نصاً: «سنفعّل ضدّها قوّة غير متكافئة، وسنتسبّب بضررٍ ودمار بالغين» وذلك قبل أن يختم، بقوله: "هذه ليست توصية إنها خطة، وقد تمّ إقرارها" (يديعوت أحرونوت: 3 تشرين الأول 2008م، عن: مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 77، شتاء 2009، ص 2).
عقيدة "جباليا"
نفّذت تل أبيب حرفياً في حرب لبنان الأخيرة، استراتيجية تدمير الضاحية وقرى الجنوب، ولم يكن الهدف حزب الله وحده، بل شملت العملية ضرب الحاضنة الاجتماعية للحزب أيضاً، وفاقاً لعقيدة الضاحية، ما يضع أيدينا على ملاحظة مهمّة خبرناها طويلاً مع "إسرائيل" منذ مواجهات 1948م، وعبر جميع الحروب التي لحقتها مع الدول العربية، كما أيضاً داخل الساحتين الفلسطينية واللبنانية، هي باختصار مكثّف: إن الخطوط العامة لاستراتيجيات العدو موضوعة على نحوٍ بحيث يمكن قراءتها مسبقاً، ومن ثمّ فهي ليست متاحة أمام المعنيين وأصحاب القرار وحسب، بل يمكن التنبؤ من خلال استشرافها والتمعّن بها جيداً، بخطوات تل أبيب وممارستها؛ وفي ذلك درس بليغ لو استوعبناه، لصار بالمقدور تقليل الخسائر، وإتقان المواجهة، وتكثير المغانم.
بالعودة إلى معضلة غزة والتفكير الإسرائيلي الدائم بتقليل سكانها، نجد أن تل أبيب نقلت استراتيجية نهج الضاحية وطبقته بحذافيرها في غزة، لاسيّما في الشمال مع إدخال تعديل طفيف يخدم هدفها السكاني. ففيما كان الهدف في عقيدة الجنوب اللبناني والضاحية، ضرب الحاضنة الشعبية لحزب الله ورفع كلف الأضرار والخسائر، عبر التدمير المنهجي الهائل إنسانياً وعمرانياً، تطوّر الأمر في غزة، إلى: "إبادة الحاضنة الاجتماعية لحماس" إذ تحوّلت استراتيجية "إسرائيل" بدءاً من تشرين الأول 2024م، من تدمير قطاع غزة بأكمله ووضعه خارج دائرة العيش والسكن، عبر ضرب البُنى التحتية على نحوٍ منظم؛ إلى إبادة منهجية مقصودة للإنسان وللبنية المجتمعية الفلسطينية، وفرض واقع جديد من خلال آليات أربع، هي: القتل، التدمير، التهجير، الحرب النفسية؛ وذلك كله ضمن ما أطلقت عليه تل أبيب، بـ"عقيدة جباليا" (يُنظر: من عقيدة الضاحية إلى عقيدة جباليا، ياسر مناع، مركز المدار، 20 كانون الثاني 2025م).
لحظة ترامب
ليس من الصحيح مطلقاً اختزال أميركا بترامب، كما لا ينبغي أيضاً الاستخفاف بدور ترامب في منح أميركا صبغة خاصة، هي "أميركا الترامبية". مرّة أخرى؛ أميركا الترامبية لا تساوي أميركا، بل هي حلقة من حلقاتها الوجودية، لها سماتها وخصائصها. وهذه باختصار هي قصة أمريكا منذ تأسيسها عام 1776م مع (46) رئيساً آخر غير ترامب، ساهموا في إيجاد الكينونة الأمريكية. دائماً هناك علاقة جدلية بين الرئيس وأمريكا، إذ كلما كان الرئيس قوياً يتسم بخصوصيات مميّزة، كلما انعكس ذلك مباشرةً على الكينونة والهوية الأمريكية، وأعتقد أن عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر ميشيل كروزييه، هو من خيرة من تناول هذه الجدلية، في كتابه المعروف: "الداء الأمريكي" ليكون عمله وكأنه تكملة لمحاولة مواطنه الريادية عن أمريكا، الكسيس دو توكفيل (1805ـ 1859م) في كتابه الأشهر: "الديموقراطية في أمريكا" وكلاهما كانا قد ألفا كتابيهما عن الولايات المتحدة، بعد معايشة لأمريكا من الداخل.
ما يهمّنا من لحظة ترامب الحالية، هو دعوته الصريحة إلى تقليص سكان غزة عبر مبدأ التهجير إلى دول الجوار ولاسيّما الأردن ومصر، وربما إلى مناطق ودول أخرى من العالم أكثر جاذبية وإغراءً، خاصةً إذا ربطنا هذه الدعوة بصفقة القرن، أو مشروع ترامب للقضية الفلسطينية إبّان إدارته الأولى (2017ـ 2021م) إذ نصّ مشروعه للسلام بصراحة على اقتطاع (30%) على الأقل من أراضي الضفة ودفعها إلى "إسرائيل". كما نصت الصفقة أيضاً بمنح مصر أراضٍ للفلسطينيين، مقابل تقديم دعم مالي كبير لها.
مشاريع أميركا
بالعودة إلى التمييز بين الإدارة والدولة في أمريكا، نجد أن القضية الفلسطينية بشقيها العربي والفلسطيني، تأخذ في اهتمامات سياسة الولايات المتحدة بُعداً تراكمياً في المشاريع والخطط والمواقف، لتكون واحدة من ثوابت الدولة الأمريكية، تتناولها الإدارات بمشاريع مختلفة.
ومشاريع أمريكا إزاء القضية الفلسطينية بدأت حتى قبل الإعلان عن قيام "إسرائيل" في 15 أيار عام 1948م، حين كانت فلسطين بؤرة استقطاب حاد في السياسة الدولية، كما حصل ذلك فعلاً في مشروع اللجنة الأمريكية ـ البريطانية المشتركة عام 1946م. على الخطّ نفسه اشتهرت مشاريع جون فوستر دالاس وزير خارجية أمريكا عام 1955م، ومبادرة الرئيس جون كنيدي عام 1961م، ومبادرة الرئيس جونسون بعيد أيام قلائل من حرب حزيران عام 1967م، وبعدها مشروع وزير الخارجية وليام روجرز الأول والثاني عامي 1969 و1970م، إلى مشروع كامب ديفيد على عهد جيمي كارتر، وبعدها مبادرة ريغان، ثمّ مشروع بيل كلينتون ومشروع أوسلو عام 1993م، هكذا إلى صفقة القرن في إدارة ترامب الأولى، التي راحت تطلّ ببعض عناصرها من خلال دعوة ترامب صراحة إلى تهجير أهالي غزة، مستغلاً الأوضاع الاستثنائية في القطاع في ظلّ تداعيات ما بعد 7 تشرين الأول 2023م، وانطلاق طوفان الأقصى، وما أدّى إليه من تبعات ليس في غزة ولبنان وحدهما بل في سوريا وعموم المنطقة.
التراكم والاستمرارية
أول ما ينبغي أن ننتبه إليه إن مشاريع أمريكا هي مشاريع الدولة وليست الإدارات. بمعنى أن ما تطلق عليه الأدبيات الأمريكية، بعنوان قضية الشرق الأوسط، بشقيها العربي (العلاقة بين العرب وإسرائيل) والفلسطيني (مصير الفلسطينيين ومستقبلهم) هي من ثوابت البيروقراطية السياسية في واشنطن، لا يختص معالجتها والتعامل معها على إدارة دون أخرى. وبذلك فهي تتسم بالتراكم والاستمرارية، مع ما ينشأ عن ذلك من إعادة إنتاج المشاريع والخطط والمواقف مع كلّ إدارة جديدة من بطون ذلك التراكم، عبر مشاريع وتقنيات سياسية جديدة، تأخذ بنظر الاعتبار المستجدات المستحدثة على الساحة وفي الميدان.
على سبيل المثال، عندما نعود إلى الصفحات المئتين التي تؤلف مشروع "صفقة القرن" نجد الكثير من مادّة هذه الصفقة، موجودة في المشاريع التي سبقتها، مع وضع لمسات تُجاري التطورات الجديدة.
وبذلك نجد أن المبادرات الأمريكية ليست مشروعات في التأريخ، ومن ثمّ هي لم تستحل إلى تراث وأوراق من الماضي، بل لم تزل تملك جهوزية الفعل، ولها حضورها في الأفكار والمشاريع والخطط الحاضرة، على الأقلّ عبر ثوابتها وفي طليعتها جميعاً الكلام الراسخ عن «حق إسرائيل» في الوجود والاستمرار، والتعامل مع الفلسطينيين كلاجئين وحسب، مع التطوّر النوعي ما بعد أوسلو وإيجاد السلطة الفلسطينية، الذي كان ينبغي أن يتحوّل إلى حلّ الدولتين، وهو الحلّ الذي تآكلت فرصه العملية على الأرض؛ أولاً عبر تجزئة السلطة وفصلها من خلال توزيعها بين الضفة والقطاع؛ والآن من خلال مشاريع تداعيات تدمير غزة، وقضم الضفة، إذ أكتب هذه الأسطر وسيناريو تدمير غزة يتحرّك على أرض الضفة، ولو ببطء، فيما لا تزال غزة بانتظار خيار الهدنة الثانية أو استئناف الحرب.
ستراتيجية التهديد الشامل
قد تكون ستراتيجية التهديد الجامع أو الشامل هي أفضل وصف لإدارة ترامب حتى الآن. فما فعله عملياً في الداخل عبر الأوامر التنفيذية (لها قوّة القانون) والإجراءات العملية ضدّ المهجرين وسوى ذلك، بالإضافة إلى قراراته الاقتصادية ضدّ كندا والمكسيك والصين، والاتحاد الأوربي على الطريق، إنما هي خطوات تعكس بعض وجوه هذه الاستراتيجية.
بخصوص تل أبيب تؤكد المعلومات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أراد تأخير تنفيذ الهدنة وإجراء التبادل إلى ما بعد تنصيب ترامب رسمياً، مداهنة من نتنياهو له، لكن مندوب ترامب الخاص أكد لنتنياهو أن ترامب لا يريد هذا التأخير حتى بهدف مداهنته، لذا أُجبر نتنياهو على إعلان الهدنة. وباستثناء ما يتردّد في وسائل الإعلام عن لقاء نتنياهو بترامب فلا نملك معلومات واضحة عن الاتجاه المرتقب لحركة الحوادث في المنطقة بعد هذه الزيارة، سوى ما ذكرته صحيفة "معاريف" العبرية من أن نتنياهو يهدف إلى إقناع ترامب بقضية من خيارين. أما القضية فهي حماس في الداخل وإيران في الإقليم، والخياران بشأن حماس، أن يُستأنف القتال إلى مدة جديدة قد تدوم عاماً آخر، للقضاء على ما تبقى من قوّة حماس، إذ من غير المعقول بحسب نتنياهو، أن تنتهي الحرب وتبقى حماس قوى حاسمة في غزة.
أما الخيار الآخر فهو أن يسمع نتنياهو من ترامب وفريقه، لخطة تنهي حماس في غزة عبر ترتيبات داخلية وإقليمية، من دون أن نعرف تفاصيل ذلك ومدى إمكانية تنفيذ مثل هذه الخطة، خاصةً وسط الممانعة التي أظهرها أهالي غزة ضدّ دعوات التهجير.
نحن إزاء معادلة معقدة بأبعاد مركبة محلية وإقليمية ودولية، يصعب فيها الجزم ويغيب عنها اليقين. أما إيران فهي في محاورات ترامب ـ نتنياهو، فهي قضية متداخلة يتقاطع فيها الشأن الأمريكي مع الإسرائيلي مع الإيراني، تحتاج إلى رؤية مستأنفة.