متى يكون العرض المسرحي مؤثراً؟

ثقافة 2025/02/09
...

  أ.د. باسم الأعسم


إن جميع الفنون المسرحية السمعية، والبصرية، والحركية، تمتلك القدرة على التأثير بحواس المتلقين، على تباين قدراتهم، وثقافتهم، وتذوقهم، وانحداراتهم الطبقية، وهذا نابع من طاقات الفنون الإيجابية المتجددة فيها، لكن ثمة تباين في درجة التأثير من فن لآخر، تحدده درجات الاتقان على صعيد الأسلوب، والثقافة الفنية، والجمالية الداعمة للمقاربة الإجرائية، كما أن مكونات الفنون لها أبلغ الأثر في إحداث التأثير بالجمهور، فالفن التشكيلي كالرسم، أو النحت، والفن الموسيقي، يختلف عن الفنون القولية، كالخطاب المسرحي، على صعيد الطاقة التأثيرية. إذ أن العرض المسرحي يحتضن الفنون ذات التأثير المباشر، ويبثها بنحو مباشر، فتتعمق صلات الجمهور بالعرض المسرحي، الذي يقيم حواراً آنياً، عبر اللغة، ولغة الجسد المثخن بالايماءات، والاشارات، ذات الدلالات الموحية، التي تضفي على خطاب العرض المسرحي، الثراء الدلالي، والجمالي، والفكري. وتلك هي خصائص المسرح النابعة من طبيعته، وسحره، فحاز على الفنون الأخرى، بحسب المقاربة الاخراجية التي تستنطق الجمال، عبر التوظيف الأمثل للخيال، والخبرة، والوعي، فضلاً عن البعد الجماعي في التلقي، وتآزر الذوات المنتجة لخطاب العرض المسرحي، وتلك سمة مائزة اختص بها الفن المسرحي عن سواه من الفنون البصرية التي تكون فردية في أغلبها.

المهم أن العرض المسرحي، لا يكون مؤثراً بمجرد اختيار نص عامي أو عربي مبهر، بل يتسامى خطاب العرض المسرحي، ويحوز على أقصى درجات الألق، والتأثير بالجمهور عبر الاشتغال الجمالي الأمهر لأنساق العرض، على وفق مقتضى الضرورة، وليس استجابة للحظة عاطفية عابرة، أو رغبة في التقديم من دون مسوغات مجدية، فالعرض المسرحي محكوم بقيم سامية، ومقاربات راقية، تسمو على الدوافع الشخصية النزقة، والأغراض الضيقة، مقاربات تشد الجمهور إلى العرض المسرحي من فرط روعتها، وتستنفر طاقات الممثلين المخبؤة بحداثة اطروحاتها، فتشيع الجمال، وتعمق الاتصال، فيحدث التأثير المنشود.

إن فضيلة المخرج المسرحي تقديم عرض مغاير على الصعد كافة، يحسب فيه زمن العرض بدقة، واستخدام انساق العرض، بنحو أدق، كيما تتضاعف مستويات الجمال، بحيث يسود الصمت قاعة العرض، فتتنامى وثائر التلقي، بما يجعل المتلقي متابعاً نبهاً، وملاحقاً لمستجدات العرض، وصوره الباذخة، والطاردة للملل، والرتابة، والزعيق، وذلك لم ولن يتحقق التأثير بالجمهور، من دون أن يتسامى الممثل بأداءاته المتنوعة، والمصمم بإبداعاته الساحرة، والمخرج ببصماته المؤثرة.

إن العرض المسرحي ينبغي أن يكون خلاصة لتصاهر جماليات الأنساق البصرية وهندستها، ضمن فضاء العرض، وتلك محددات التأثير، لأن العرض المسرحي تجسيد حي لخلق مبتكر، يولد الدهشة، ويصنع الاعجاب. وليس شرطاً أن يتكأ المخرج على نص المؤلف، فيجسده حرفياً، كما أراده المؤلف، بل إن يصنع عرضاً مغايراً يسر الناقد، والمؤلف، والجمهور، وكما أراد المخرج نفسه، بما يرسخ سلطة الابتكار الجمالي.

إن العرض المسرحي ميدان حر لاستظهار القدرات الإبداعية للمخرجين، فمن كان مثقفاً، وذا خيال خصب، وخبرة طويلة، وذائقة مرهفة، ومشاهدات متنوعة، يكون في العادة أقدر من سواه على تقديم عرض مسرحي مختلف، ومؤثر، بحيث يمثل في ذاكرة الجمهور والنقاد، لأمد غير محدد.

ومن أخص علامات تفوق عرض مسرحي ما، الاستجابة التلقائية للجمهور على تعدده، واختلاف شرائحه، وتنوع قناعاته، فيكون العرض المسرحي عندئذ خلاصة لكل ما هو جميل ومؤثر.

إن العرض المسرحي، تجسيد حقيقي لحساسيات متقاطعة، لكنها تلتئم في سياق العرض، عندما يستحوذ على ذوات الجميع، بمهارات المخرج، وهو يصدم الجمهور في ابتكار الجمال، وإزاحة القبح.

ويكون العرض المسرحي مؤثراً، عندما يتسامى على المقاربات التقليدية البائسة، التي تعول على النص، تاركة نص العرض، الذي هو الأساس في اجتذاب الجمهور، واستحسان النقاد.

وكذلك يكون العرض مؤثراً عندما تكون افتراضات المخرج صحيحة، وخطواته راكزة، وأفكاره سليمة، وبروفاته منتجة، وممثليه أكفاء، بل يكون العرض مؤثراً عندما تتردد اصداؤه على ألسنة الجمهور بإعجاب منقطع النظير، وعندما يتخذه طلبة الدراسات العليا، كعينة في البحوث الاكاديمية للدلالة على نجاحه وجدته واجتهاده وقدرته على صدم الآفاق.

في ما يصبح العرض المسرحي خائباً عندما يخفق المخرج في صناعة عرض يثير الجدل، ويبعث الأمل، بمستقبل الخطاب المسرحي، فمعيار تألق العرض اكتشاف الجديد والمغاير في المقاربات المستحدثة، وليس اللهاث وراء المعالجات المتوارثة أسيرة البديهيات المقرفة، والأساليب المتخلفة، إذ أن الفن المسرحي - خاصة- يقترن بالجديد، وينفتح على كل ما هو حداثي معاصر، حافل بالتجديد، ومناهض لكل أسلوب راكد، وعقل بليد.

كما لا يصح المراهنة على نسق دون آخر، فالعرض المسرحي، منظومة نسقية متكاملة، تبث اشعاعاتها لإضاءة فضاء العرض المسرحي، بمزيد من التكوينات البصرية الجاذبة لحواس الجمهور، وعندئذٍ يكون العرض المسرحي مؤثراً، كما لو كان كرنفالاً، جمالياً، آسراً.

ولو لم يكن العرض المسرحي مصدراً للجمال والتأثير، بحسب كفاءة المخرج، وحنكة المؤلف، لما تزاحم الجمهور لمشاهدة العروض المسرحية، مهما كان ثمن بطاقات الدخول، وبالأخص العروض ذات التأثير الكبير على الجماهير، والتي تنطوي على معالجات بصرية صادمة، وأفكار واخزة، وصور تحفز الوجدان، وتجتذب الإنسان، بفعل اجتهادات المخرج الفنان، الذي يصدم حواس الجمهور، منذ لحظة دخوله قاعة المسرح، وبدء العرض، حتى منتهاه، بحيث يحوز على إعجابه بجميع انساقه.