في رحالنا نحمل وطناً

ثقافة 2025/02/09
...

  فيء ناصر


(نحمل تاريخاً/ نحمل حرفة/ نحمل جرحاً/ نحمل حرارة استوائية/ نحمل نقاوة/ نحمل مكتبة من الوثائق المعدلة/ نحمل قطيعة/ نحمل الاستمرار/ نحمل الأرض/ نحمل احتضان تيار نهر/ نحمل الأخوة والتواشج الاجتماعي/ نحمل أشعة صباح بلا خوف). 

تحت عنوان رئيس هو "رحالنا"، وما يتفرع منه من أحمال، افتُتحَ في السادس من الشهر الجاري بينالي الشارقة بنسخته السادسة عشر، بمشاركة 200 فنان من جميع أنحاء العالم، يقدمون أكثر من 300 عمل فني، بعضها أعمالٌ جديدة بتكليف من مؤسسة الشارقة للفنون وبعضها الآخر تعديل على أعمال سابقة لكي يوائم عنوان البينالي أو امتدادا أو تكرارا أو تمثيلا جديدا لها. 

تُعرض هذه الأعمال في 17 موقعاً على امتداد إمارة الشارقة، بالإضافة إلى برنامج حافل من العروض الفنية والأدائية والسينمائية. ومن الكلمة الافتتاحية للشيخة حور القاسمي رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون: 

"يعيد رحالنا بناء النموذج التقييمي لبينالي الشارقة، ويوسع من آفاقه الإبداعية، مستنداً إلى تفكيك نظرية المعرفة والفكر. وفي هذه النسخة، يتكاتف فريق تقييم خماسي من القيّمات، ليبدع صيغا مشتركة من التعاون والتشاركية، مقدماً منصة فنية متعددة الأصوات والتأويلات، لتفتح آفاقا جديدة لرسم خرائط ثقافية بصرية وفكرية تعبر بعمق عن عالمنا المعاصر. ينطوي "رحالنا" ايضا على تجاوز الانماط الخطية التقليدية في انشاء المعرض الفني، إلى التأكيد على الأصوات والفضاءات والموارد والجهود في عملية تفاعلية متسقة ومثمرة مع الجمهور".  

قيّمات البينالي الخمس

تشرف على دورة هذا العام من البينالي خمس قيمات، هن: علياء سواستيكا؛ التي حاولت تعزيز دور الفنون من المنظور النسوي دون الخوض بالأسئلة الجندرية، بل عبر التعمق بالممارسات التقاطعية الأنثوية وإمكاناتها في إثراء العمل الفني فكرياً وثقافياً. بينما أعادت أمل خلف تخيّل الخرائط الثقافية الحديثة من وجهة نظر الموانئ في منطقة الخليج، مستفيدة من هيكلية المباني التراثية في الشارقة، والتي هي ساحة عرض للأعمال الفنية، وركزتْ على التواشج الوثيق بين الفنانين والمجتمعات. أما ميغان تاماتي كيونيل فقد استلهمت هيكلية المعارض العالمية، بوصفها أحداثاً عابرة، لتجمع أعمالا تستكشف الإمكانيات الكامنة في هشاشة الاستقرار وزعزعته نحو الانحدار إلى الآني والزائل. أما ناتاشا جينولا فتبنتْ رؤى وتصورات متوارثة متجذرة من ارتباط الإنسان بالأرض مع تركيز خاص على المنظور الأفرو-آسيوي. أما القيّمة زينب أوز فغاصتْ في تجليّات الأعماق المادية وفقاً لإمكانية تطوير تقنيات وابتكارات الماضي. 

شوارع الشارقة وضواحيها الصحراويَّة 

تزينت شوارع الشارقة ومؤسستها الفنية ومدنها الصحراوية مثل الذيد والحمرية ومدينة كلباء وحتى قرية "المدام" المهجورة، بلافتات "رحالنا" هو مقترح يحمل في طياته أصواتا متعددة ويفتح المجال أمام التأويلات المختلفة لعامة الناس، إذ يركز العنوان على استكشاف احمالنا الشخصية خلال رحلاتنا اليومية، وكيف نحمل هذه الأحمال معنا إلى العالم، كما يدعو عنوان البينالي والأعمال المعروضة إلى استكشاف الأساليب الفنية المتنوعة التي تبنتها القيّمات الخمس، والرؤى والتأملات التي استلهمنها من تجاربهن الفنية. 

تستهدف الأعمال الفنية المعروضة في البينالي والتي تراوحت بين الأعمال الفنية التقليدية إلى طيف واسع من التجارب السينمائية والصوتية والتراكيب الفنية ما بعد حداثوية، لفهم هشاشتنا في الأماكن التي نشعر بالغربة فيها، أو تلك التي لا ننتمي لها، ورغم حفاظنا على قدرتنا على التفاعل مع هذه الأمكنة عبر حمولاتنا الثقافية الأصلية التي نحملها معنا. إرتأت الجهة المنظمة للبينالي أن يكون العنوان أيضا جسراً يربط بين أزمنة متعددة، حاملاً معه قصصاً متناقلة عبر الأجيال وأساليب متنوعة من الإرث الثقافي من مختلف أنحاء العالم. عنوان البينالي "رحالنا" ببعديه الرمزي والواقعي يستفز أسئلة بلا نهاية، عبر الأعمال الفنية المعروضة منها على سبيل المثال: ما الذي نحمله معنا عندما يحين وقت السفر، أو الهروب، أو الانتقال؟ ماهي المسارات التي نخوضها عندما ننتقل بين الأماكن والأزمان؟ 

ولأجل استكشاف هذا العنوان واستنفاذه فنياً، وفرتْ مؤسسة الشارقة للفنون الكثير من التسهيلات للفنانين، بدءاً من الإقامات الفنية والورش والإنتاج الجماعي، وصولاً إلى الكتابة والتجارب الصوتية والمنشورات المصاحبة للأعمال، ثم المشاركة بالنقاشات الجماعية والحوارات النقدية المستمرة، وبناء أشكال مختلفة من السرديات بوجهات نظر وجغرافيات ولغات متعددة، للإجابة عن هذه التساؤلات بالطرق الفنية المناسبة لكل فنان، والتي تشكل مع بقية الفنانين نوعا من التواشج المريح وغير العشوائي. 

الانسجام مع البيئة المحليَّة 

وانطلاقاً من التاريخ البحري والجغرافية الساحلية لإمارة الشارقة، تناولت الأعمال الفنية المعروضة والتجارب الأدائية مواضيع تتعلق بالبيئة البحرية والزراعية المحلية والصلات الإقليمية وأهمية الحفاظ على الثقافة المحلية. 

في عمل الفنانة مريم النعيمي المكون من سلسلة من الصور الفوتوغرافية، التي تُعرض على امتداد كورنيش الشارقة العلاقات التاريخية والمعاصرة في منطقة الخليج العربي مع المسطحات المائية، باعتبارها كيانات حيّة، ويستعيد العمل أداء الطقوس المحلية في الأماكن التي تأثرت باستصلاح الأراضي.  

كما عرضتُ في مدينة الذيد الصحراوية أعمالا تركيبية ونسيجية تواشجت مع البيئة الصحراوية للمدينة، وتحولت جذوع النخيل والرمال والنباتات الصحراوية والأصوات إلى جزء من العمل الفني التفاعلي، الذي يتيح للزائر التجوال فيه.