رَمزيَّة التكرلي وصراعات الإنسان

د. جاسم حسين الخالدي
تُعدُّ مجموعة "موعد النار" لفؤاد التكرلي واحدة من الأعمال القصصية التي أحدثت نقلة نوعية في السرد العراقي، من خلال تجاوزها للمشكلات الفنية التي كانت تعاني منها القصص العراقية السابقة. فقد تمكن التكرلي من تقديم قصص متماسكة فنياً وذات بعد فكري عميق، مما جعلها محطّ اهتمام الباحثين مثل د. عبد الإله أحمد، الذي أشار إلى أن قصص التكرلي لم تطرح أمام الباحث مشكلات الشكل الفني، بل فرضت على النقاد مهمة تحليل رؤيته للحياة وعوالمه
الخاصة.
تضم المجموعة 14 قصة، من بينها "موعد النار"، "غرباء"، و"العيون الخضر". وتُعد "همس مبهم" و"العيون الخضر" من القصص ذات الأهمية الخاصة لدى التكرلي، حيث نُشرت الأولى في مجلة الأديب عام 1959.
لم يعتمد التكرلي في ترتيبها على التسلسل الزمني في ترتيب القصص، بل اختار ترتيبًا غير تقليدي، حيث أخّر "همس مبهم" و"العيون الخضر" رغم أهميتهما. زيادة على ذلك، قدم موضوعات جديدة في القصة العربية، مثل: موضوعات الجنس، وكذلك قضايا إنسانية وفنية عبر تقنية متقدمة في الوصف ورسم
الشخصيات.
ركز التكرلي في مجموعته على الرمزية، حيث كانت الصور السردية جزءًا لا يتجزأ من الحدث، مما جعلها تؤثر بشكل عاطفي في القارئ. في قصة "موعد النار"، على سبيل المثال، تتداخل الصور الحسية مع الواقع المأساوي للشخصية الرئيسة الذي يواجه الموت. تم توظيف الوصف التفصيلي لإيصال مشاعر الألم والضياع، كما توظف الرمزية لتمثيل الخوف
والعجز.
تجسد الصور الرمزية في "الأرض تسحب قدميه إليها" و"كانت ثيابه تنفصل عن جسمه" قدرة التكرلي على نقل الأحاسيس بشكل يثير تعاطف القارئ مع معاناة الشخصية، كما تجسّد حالة الصراع الداخلي بين الحياة والموت. كما أنَّ الرمزية في القصة لا تقتصر على الصور الحسية فحسب؛ إذ تشمل أيضاً التوظيف الذكي للمكان
والطبيعة.
فالمكان، سواء كان الأرض التي يسحب قدميه نحوها، أو الظلال التي تخيفه، يتعامل معه التكرلي بوصفها رموزاً تعكس حالته النفسية وتزيد من عمق تجربة الشخصية الرئيسة. كذلك، ترمز الشخصيات الثانوية في القصة لحالات إنسانية متنوعة، مثل الجنود الذين
يظهرون رمزاً للموت المحتوم.
في قصة "غرباء"، التي تتناول تجربة شخصية مليئة بالتأملات والتداخلات الشعورية، يعكس التكرلي الغربة والاغتراب النفسي من خلال السرد الداخلي لشخصية تعيش حالة من التوتر بين الماضي والحاضر. تتداخل مشاعر الحنين إلى باريس مع الواقع الحالي في بغداد، مما يبرز التناقض بين الحياة اليومية والتأملات العميقة.
في هذه القصة، تزداد أهمية المطر بوصفه محركاً رمزياً يعكس حالة الشخصيات، فهو ليس مجرد عنصر طبيعي، بل رمز للوحدة والانعزال. كما أن المكان في هذه القصة، مثل محطة الحافلات في بغداد، يمثل نقطة التقاء بين شخصيات تتباين مشاعرها بين الحنين والغربة.
القصتان المتقدمتان، "موعد النار" و"الغرباء"، تشتركان في وحدة النهاية المفتوحة؛ لتأكيد الشعور بالضياع واللايقين الذي تعانيه الشخصية الرئيسة، مما يعكس رؤى فلسفية عن الحياة والموت والغربة. النهاية المفتوحة لا تقتصر على غموض الأحداث، بل تترك للقارئ فرصة للتأمل في معنى الحياة المعلقة بين الحلم
والواقع.
تستمر هذه القصص في تقديم بيئات مختلفة كرمزية تعكس حالة الشخصيات النفسية، مع ترك نهاية مفتوحة تساهم في تعزيز الشعور بالغموض والضياع، وهو ما نلمسه في "الصمت واللصوص" التي تظهر أن الخوف قد يكون القوة المسيطرة، لكنه ليس القوة الوحيدة، فالإرادة الإنسانية تظل قادرة على التحدي، كما تدعو القصة إلى للتأمل في كيفية مواجهة القهر، سواء بالصمت أو بالصراخ أو بالمقاومة.
تعدُّ شخصية "الأخ الصغير" في هذه القصة المحرك الأساسي للتغيير؛ إذ يتجاوز دوره الطفولة ليصبح عنصرًا حاسمًا في الصراع، مجسدًا روح التحدي والمقاومة على الرغم من ظروف القهر والخطر. يمزج التكرلي بين الواقع والخيال في تصوير الأحداث، مما يعزز الغموض ويعكس الحالة
النفسية المضطربة للشخصيات.
في قصة "الغراب"، يرمز العنوان إلى الغربة والعزلة، حيث يُمثل الغراب رمزًا للنبذ. القصة تسلط الضوء على صراع الأم الداخلية في مواجهة واقعها المرير، وتظهر الحكايات وسيلة للتواصل مع ابنتها ومواجهة الخوف. الرحلة التي تقوم بها الأم في الليل، ممسكة بفانوس ضعيف، تعكس محاولاتها المستمرة للبحث عن أمل وسط الظلام، مما يبرز قوتها وهشاشتها في آنٍ
واحد.
"أما الغربان" في القصة، فتمثل استعارة للوضع الإنساني للشخصيات، حيث يعكس الغراب الأسود شعور الأم بالعزلة، لكن استمراره في الحياة يعبر عن مقاومتها. في النهاية تُظهر القصة معاناة إنسانية شاملة، تعكس الصراع الداخلي للشخصيات مع الوحدة والخوف.
يتكرر موضوع الصراع الداخلي والتوتر النفسي بوضوح في قصص التكرلي، وهو ما نراه أيضًا في "القنديل المنطفئ"، التي ترصد الصراع الداخلي لشخصية "جبار" في مواجهة العنف الأسري والسلطة والاضطراب النفسي. تتداخل عناصر مثل: الرياح والمطر؛ لتشكل صورة مكثفة عن حالة الهلع التي يعيشها "جبار". كما أنَّ القصة لا تقتصر على القيم الاجتماعية، بل تتناول أيضًا تعقيدات الشخصيات التي تواجه صراعًا بين الحفاظ على كرامتها والواقع المرير المترتب على أفعالها. تتحول الرمزية في القصة إلى معركة بين الوعي الفردي والجماعي، وبين الهم الشخصي والمجتمعي.
إن موضوعات التكرلي الاجتماعية تتسع لتشمل قضايا معقدة، من دون أن تغادر مسارات الحياة اليومية والتجارب الوجدانية. في قصة "الدملة"، يتنقل البطل بين محادثات سطحية مع صديقه في السيارة، بينما يواجه صراعًا داخليًا مع الذكريات والهويات المفقودة، مما يصوَّر حالةً من الضياع الروحي والمعنوي.
تتجسَّد الرمزية في "السيارة" التي تمثل مسار الحياة، و"الشارع الطويل" المظلم الذي
يرمز للطريق المجهول.
في قصة "العيون الخضر"، يسير القطار عبر مناطق مختلفة، مجسدًا حياة شخصيات متعددة تنتمي إلى خلفيات اجتماعية متنوعة. شخصية سليمة، التي تحمل عيونًا خضراء، تمثل معاناة المرأة العراقية في ظل مجتمع مضطرب. يتداخل السرد مع الرمزية، حيث تحمل العيون الخضر دلالات الحزن والخضوع والأمل المفقود، في حين يمثل القمر الهروب النفسي والأحلام المستحيلة. القصة لا تقدم حلًا تقليديًا، بل تترك القارئ في مواجهة مع واقع مرير، حيث تستمر معاناة الشخصيات دون أمل واضح في التغيير.
مارس التكرلي التجريب في الكتابة السردية، حيث يبتكر في كل قصة موضوعًا وتقنية جديدة. في قصة "همس مبهم"، التي تنتمي إلى الأدب التأملي النفسي، يعرض تجربة شخصية للراوي الذي يجد كتابًا قديمًا يحتوي على ملاحظات مكتوبة بخط يد صبي يعاني من الوحدة في أسرة مفككة. يعكس الكتاب مشاعر الصبي تجاه والديه، من حبٍ مع ألم بسبب تصرفات والدته المستهترة، وشعور بالوحدة والخوف من المستقبل. تنتهي القصة نهاية مفتوحة، تاركة تأثيرًا عميقًا في الراوي، رغم أنه لم يلتقِ بالصبي.
وفي قصة "الأزهار"، يعرض التكرلي صراعًا دراميًا بين زوج وزوجته، حيث تتهم الزوجة زوجها بالخيانة وتُستدعى الطبيبان النفسيان بعد فقدانها السيطرة على أعصابها. القصة تسلط الضوء على انهيار العلاقة الزوجية، والصراع بين الكرامة الفردية والاحتياجات العاطفية. تتضمن القصة رموزًا مثل الزهور التي تمثل الخيانة، والكرسي الذي يرمز لفوضى مشاعر
الزوجة.
أما في "م.أ.د.ع.س"، فالتكرلي يمزج بين الواقعي والغرائبي، حيث يبدأ الراوي بمهمة يومية بسيطة ثم ينتقل إلى عالم غامض مليء بالألغاز. تُظهر القصة الانتقال التدريجي بين العادي والمجهول، مع نهاية مفتوحة تعكس حالة من الحيرة. الرموز في القصة مثل السيارة الزرقاء تمثل الحياة اليومية، والظلام والنور يشيران إلى المعرفة والجهل.
وأخيراً، يمكن اعتبار مجموعة "موعد النار" فصلاً جديداً في القصة العراقية؛ إذ وظف التكرلي الرمز والتفاصيل الحسية لتعميق معانيه، مما يجعل القصص التي كتبها غنية بالعواطف والأفكار المعقدة، وقابلة لمزيد من القراءات والتحليل؛ بفضل معالجاتها الاجتماعية العميقة، مما يجعل قصصه تتجاوز حدود الزمن والواقع.