النقد المعرفي والوظيفة الأخلاقيَّة

ثقافة 2025/02/11
...

   حسن الكعبي

فرض "نقد النقد" سيادته على المشهد الثقافي نتاج أهميته كمجال ابستمولوجي يدور حسب تعريفات - جابر عصفور- "حول مراجعة «القول النقدي» ذاته، وفحصه، بمعنى مراجعة مصطلحات النقد وبنيته المنطقيَّة، ومبادئه الأساسيّة وفرضياته التفسيرية، وأدواته الإجرائيّة". وفحص منطلقاته الإيديولوجية .

فالخطاب النقدي عندما يمرر أنساقه من دون مساءلات نقديَّة بإمكانه أن يؤسس لأخطر شكل من أشكال استعمار الوعي، وإعادة صياغته بكيفيّات مختلفة، وذلك ما نبَّه عليه "ميشيل فوكو، وادوارد سعيد" من خلال ربطهما بين السلطة والهيمنة والإنشاءات المعرفية التي تمكّن السلطة من الهيمنة على الوعي، وتدبره باعتبار أن للفكر قوة استثنائية في تمكين السلطة أيّا كان نوعها من السيطرة والهيمنة وإدارة الوعي وتدبره واحتوائه، ولذلك فإنّ الركيزة الأساسية للسلطة هي المعرفة، فالسلطة نتيجة من نتائج الإنشاءات المعرفيَّة، طبعاً إذا كانت هذه الإنشاءات المعرفية تستبطنها الايديولوجيا، وتحركها باتجاه هذا التمكين، الذي يسعى لصناعة تاريخ رسمي استحواذي يسيطر على الوعي ويديره انطلاقاً من قوة الخطاب وسحره البلاغي، والذي من شأنه أن يفرض حصاره على الوعي ويستعمره.

ارتكازاً إلى هذه الاستبصارات فإن "نقد النقد" يجب أن يكون صورة سجالية تنطلق من قاعدة معرفية فاضحة للبطانة الإيديولوجية الكامنة في الخطاب المنقود، ذلك أنَّ نقد السلطة لا بدَّ أن يبدأ بتفكيك أنساق المعرفة التي عملت على تقويم ركائزها، بمعنى أنّ وظيفة - نقد النقد- تكمن في إنتاج وعي مضاد للممارسات المعرفيَّة التي أخضعت الوعي لهيمنة الايديولوجيا وسردياتها الزائفة، أي أن - نقد النقد - سينهض بمهمة أخلاقية من خلال تحرير الوعي المستلب .

 في معاينته لهذه الإشكالية يشير ادونيس  إلى "أن أدب الكاتب، يوجب أدب القارئ" بمعنى أن إعادة تشكيل وعي القارئ أو المتلقي للخطابات الزائفة، سيكون من خلال رؤية نقدية تعمل على إزاحة الزيف، وهذا من شأنه أن يجعل متلقي الخطاب على دراية تعينه على أن يتخطى مسألة فهم ما قاله الناقد أو الكاتب عن أمر ما إلى مسألة كيف قال ذلك ولماذا قاله، وهذه المهمة التي ينهض بها الخطاب المضاد أو النقد المضاد هي من المهام، التي يصفها الناقد العراقي الراحل باقر محمد جاسم بــ "ذات الطبيعة البيداغوجية" لكونه أي الخطاب المضاد يسعى – حسب تعريفاته - إلى تفكيك المقولات الإيديولوجية الثاوية في المزاعم النظرية من خلال تقديمه لــ "قراءة مخصوصة فهو ينتقد ما تضمنته القراءة النقدية المنتجة، وفي الوقت نفسه ينتج قـراءة نقدية مغايرة".

اتساقاً مع هذا تأتي ضرورة وجود خطاب نقدي هاجسه المعرفة وفي الوقت ذاته يكون خطاباً موازياً بالقوة لتقويض ركائز الخطاب السلطوي وتقويض حصاره المفروض على الوعي أو يراد له أن يفرض على الوعي بقوة الايديولوجيا، لصناعة خطاب معرفي هاجسه الحقيقة وإقامة سلطتها، وصناعة تاريخ لها، يحرّر الوعي من الهيمنة والاستلاب ويمكنه من التماهي مع الحقيقة ومتطلباتها، وبذلك فإنّ -نقد النقد -أو الخطاب النقدي المضاد يحوز شروطه المعرفيَّة والأخلاقيَّة .

إنَّ محاولة التعرّف أو البحث في مـجال - نقد النقد – سيقودنا الى نتيجة كونه بحسب تعبير – عبد الحكيم الشندودي – "هو بـحث في صميم فلسفة النقد، بحث فـي الأداة التـي بفضلها يـمكـنـنا أن نرصد الإشكـالات النقديَّة، وأن تسمح لنا بـوضع العمل النقدي على السكة الصحيحة". وبما أن "نقد النقد" هو الاداة التي تمكن الوعي من تحديد مساره في التعرّف على حقيقة الاشياء، فهو بذلك يفصح عن كونه معيارا معرفيا ينهض بمهمة أخلاقية كبيرة. 

 وضمن هذا السياق يأتي كتاب "نقد النقد، رواية التعلّم" لــ "تزفــيتان تـــودوروف" الذي سعى فيه الى معالـجة المقولات والأفكار الأدبيَّة والـنقديَّـة ونظرياتها فـي القرن العشرين ومـيّز فيها بـين الأصلح والأصح، وقام بتحليل بعض التـيـارات الإيديـولوجـيـة للقرن المذكور، انطلاقاً من تحديد الأسلم منها، مقدماً بعض البدائل المعرفيَّة الممكنة، وفي إطار هذا  المسعى فإنّ الكتاب بالأساس هو درسٌ في التعرّف على – نقد النقد - بكونه ممارسة معرفية تصدر عن أفق الوظيفة الأخلاقيَّة .