الخبز والأسلحة

ثقافة 2025/02/11
...

  حسب الله يحيى 


وقع ما لم نكن نتوقع حدوثه.. 

وحدوث ما وقع كان يشكل كارثة بالنسبة إلينا.

أما الكارثة، فإنها تعني بالنسبة إلينا كذلك، كونها لا تعني قتلنا بدم بارد وإنما إسقاط الشرف عنا سواء كنا أحياءً أو أمواتاً.

هذا ما كان يخيفنا.

ففي الليلة الماضية، فضلنا ألا نشعل مصباحنا النفطي الصدئ، بعد أن تعذرت علينا الكهرباء الوطنية.. قررنا ألا نشعل شمعة ولا جمرة سيكارة يحتاج اليها أبي وهو في قمة قلقه، وأكثر من ذلك قررنا ألا نتحدث همساً.

فضلنا أن نموت صمتاً! 

لكن أبي اتخذ قراره.. أن يبحث لنا عن رغيف خبز يقينا الجوع الذي احتملناه لثلاثة أيام خلت.. تمرد على صمتنا، وتسلل إلى بيننا.

-  إلى أين يا أبي؟

سألته:

- لا عليكم.. الجوع لا يحتمل، سأبحث لكم عن خبز.

- لن تجد خبزاً، كل الأفران أطفأت نيرانها وأقفلت أبوابها.

- سمعت أن جارة لنا تخبز في تنورها الطيني وتبيع الخبز. 

لحقت به أمي، منعته، وقالت:

- سأذهب أنا.

- في الليل.. امرأة تسير وفي هذه الظروف العصية؟

- سنذهب معاً.. لن أدعك تذهب وحدك.

ومضيا.. وبالكاد فتحنا الباب.

 كانت هناك إطلاقة، دوى صوتها، واستقرَّ مكانها في رجل أمي.. صرخت، سمعتها صرخاتها.. حملها أبي على كتفيه وراح يركض بها. 

لم يكن أبي يقوى على حمل نفسه، لكنني وجدته يقوى على حمل نفسه وحمل أمي كذلك.

تصاعدت نداءات: قف... قف..

فيما راح أبي يصرخ:

- نحن جياع نبحث عن خبز.. فلماذا تقتلوننا؟ 

- خبز في مثل هذا الليل.. كيف نصدقك؟!

- لأنكم لم تجوعوا يوماً لتصدقوا ألم الجوع.

استطاع أحد المسلحين، إقناع زميل له: دعه يمر.

ومرَّ أبي حاملاً أمي، والدماء تقطر من قدمها.. 

عدنا إلى صمتنا، والقلق ينتابنا والحذر يهيمن علينا.. 

صاح أحدهم

 ـ كنا لا نعرف مصدر الصوت 

ـ من هذا البيت انطلق الرصاص.. 

اندفعوا إلى الباب، وكان من السهل عليهم اجتياز الباب الخشبي العتيق والمتهاوي. 

- "هاي شكو اليوم؟" 

- "انجب" 

أجاب أحد المسلحين:

- سلموا أسلحتكم.. 

أجاب أحد النزلاء في هذا البيت الآيلة جدرانه للسقوط:

- نحن لا نمتلك الخبز فكيف نمتلك السلاح؟

- لأنكم فضلتم السلاح على الخبز.. وسنعلمكم كيف نكشف الأسلحة المخبّأة لديكم.

اندفعوا يفتشون الغرف وباحة الدار، عبثوا بكل شيء وبعثروا كل ما كان يواجه انظارهم.

ولم يكن أمامي إلا أن أخبئ أخواتي الثلاث.. خشية أن يأخذوهن أو يقتلوهن.

اندفعت حال سماع أصواتهم إلى أكياس التبن التي كانت موضوعة أسفل الدرج مع بقايا خشبيّة ومواد عتيقة مستهلكة.

كتمت أصوات أخواتي.. ولم أكن أخشى عليهن أن يَمُتْنَ بيدي وأنا أخنق أنفاسهن، ذلك أنني فضلت أن يَمُتْنَ على أن يكشف أحد أمر وجودهن.

كنت أسمع أقدام المسلحين الثقيلة وهي تصعد الدرج ومن ثم نزلوا بعد دقائق.. كنت أحسّها تطأ ظهري وظهور أخواتي.

كانت لحظات حاسمة، وجدت فيها نفسي ميتاً لا محالة وأن مصير أخواتي سيكون مصيراً كارثياً..

كانت هناك أقدام أثقل من سواها، وكأنها تجمع ثقلها في قدم واحدة تختلف عن سواها من الاقدام.

مضت الدقائق ثقيلة.. أثقل من الجبال على صدور الرجال.. 

فتشوا أكياس التبن ولم يتنبهوا إلى انفاسنا وهي تعاني من فقدان الاوكسجين عنها.. 

سمعناهم يسألون:

- من يسكن هنا..؟

- قالت امرأة .

- أنا وأولادي نسكن هنا.

- وأين فحلك؟

- كان مريضاً ولم نتمكن من توفير الدواء اللازم له.. فمات.

- كيف تعيشون في هذه الغرف العفنة؟ 

- على مساعدة بعضنا.. وعلى بعض ما نحصل عليه من أعمال في خدمة الأغنياء.

- ومن قتل هذا الرجل الملقاة جثته أمام الباب..؟

هنا كانت الكارثة.. فما كنا نشك أو نتوقع أن صوت الرصاصة التي انطلقت قبل قليل قد اصابت أحد المارة.. وأننا نحن سكان هذا البيت الآيل للسقوط من قتله.. وهذا يعني أننا متهمون جميعاً.. بقتله! 

وقادونا جميعاً إلى سيارة مظللة ودفعوا بنا إلى جوفها.. 

كان الطريق ثقيلاً، انتابنا القلق والهلع والخوف.. 

كان الموت يحاصرنا.

ولم نسمع عن أي من المعتقلين من يكشف سر مخبئنا.. 

وعندما غادر السكان المسلحون المكان، وجدنا أنفسنا نتنفّس عميقاً، كما لو أننا ولدنا لأول مرة.

كانت أبواب الغرف مفتوحة، وأنبوب الماء المزروع وسط الغرف في باحة الدار يسيل ويملأ الباحة.. فيما كانت الإضاءة شاحبة بالكاد تتنفس الضوء.

لم نجرؤ على السؤال عن مصير أبي وأمي كما لم نجرؤ على الوصول إلى الباب الخارجي لنسأل عن أحد، لأنَّ المكان كما اعتقدوا خالٍ من البشر.

لم نكن نفكّر فيما يمكن أن نفعله ذلك أن وجودنا في هذا السكن يلصق بنا تهمة القتل.. ويعرضنا للقتل انتقاماً كما لم تكن بنا القدرة على السؤال عن والدينا.

كل ما كنا نخشاه من قبل، بتنا نخشاه هذه المرة بثقل أكبر، وهموم أقسى وانتظارات أطول.. لا قدرة لنا على قياس أبعادها. 

احتضنا لحافاً مشتركاً.. انزوينا ننتظر موتنا ونواسي قلقنا كما لو أننا لم نكن بشراً.