أقلام السرد الأول

ثقافة 2025/02/11
...

  وارد بدر السالم


 (1)  أقلام متعددة الأشكال والألوان والأطوال والمناشئ؛ رافقتنا في الحياة الدراسية الأوليّة ومتواليتها المرحليّة. كتبتْ لنا ما كتبت من دروس في القراءة والحساب واللغة الانكليزية والجبر والكيمياء والتاريخ والجغرافية والفيزياء والأحياء. ودخلت معنا الى الصفوف الامتحانية كلماتٍ وأرقاماً وخطوطاً هندسية ومعادلات كيمياوية؛ فأقامت علاقتها بين أصابعنا وتعلقت بتلك النشأة الطفوليّة وتمرّست فيها حتى اليوم، ولولا اختراع الكومبيوتر وأزرار الكتابة الجديدة، لتقطعت تلك الأصابع وانخلعت الاتجاهات من اليمين الى اليسار. وصارت الكتابة لا تُقرأ كما يتوجب أن تُقرأ كشخابيط مبكرة من الدراسة.

تلك الشخابيط التي اندثرت في طيّات الزمن الطويل، كانت هي السرود العبثيّة للكتابة الأولى "التي لا نحتفظ بدفاترها عادةً" هي التشكيل الرسْمي الأول الذي مارسناهُ، حتى استوت بين أيدينا السطور في مراحل متأخرة، ولم تعد تزحف خارجها ولا تنحني عنها. وهي الصوت اللفظي الذي كان يتردد في أقبية لا وعي عميق لم نعرف بأنّه كان مهيّأ لأدوار شتى في ميادين الحياة عبر الكتابة. لكن ليس بمستطاع التلاميذ الصغار إداركه والتنويع على معانيه المخفيّة. يومها كانت تستقر أعيننها على المعنى الذي كنّا لا نفهمه؛ بل نحفظه بمستويات البحث عن النجاح والعلامات المدرسية المطلوبة. فقشرة البيضة تحافظ على فكرةِ جوهرٍ كامنٍ فيها. قد ندرك صيرورة الولادة في وقتها من بيضةٍ بيضاء مدورة وصغيرة، أو لا ندركها في تلك الأوقات المنسحبة من الذاكرة الطفوليَّة. لكنها في الأحوال كلها كانت تعطينا شيئاً ما عن فكرة الطبيعة التي كنّا نعيشها، وهذا هو المخفي من كينونتنا التي أورثتها الطبيعة لنا، تزامنت مع المعرفة الأولى لمسك القلم والسير المستقيم فوق السطور فكانا؛ الطبيعة والقلم؛ حاضنتَي وعي أول.


القلم هو البيضة

(2)  الكتابات الأولى مدرسيَّة وتعليميَّة، لكنّها كانت الفكرة العظيمة التي أنتجت الأجيال المتتالية في الزحف الزمني الذي لا يتوقف في فهم المعنى، ولاحقاً معنى المعنى. لنصل الى أن سرود الأقلام المدرسيَّة كانت تدريباً مبكراً على ثلاثة مستويات:

الأول: كيفيَّة الإمساك بالقلم بين الإبهام والسبّابة، لضبط الكتابة وعدم ميلها أو زحفها. وهو ضبط الوعي بأن يكون على مسارات نفسيَّة أكثر معقوليَّة مع واقع الكتابة، ومن ثمَّ العلاقات اليوميَّة في المجتمعات.

الثاني: المحافظة على انسيابيَّة السرد ضمن السطور الدفتريَّة. وهي انسيابية الوعي الطفولي وتشكيله ضمن مدارات الكتابة وإلهامها الابتدائي. وهذا ما يمثله درس "الإنشاء" الذي يُطلق دفائن اللغة وخيالها في ترتيب الواقع بشكل آخر، وتقريب صُورهِ الى الحد الذي يكون فيه الخيال قادراً على تنظيم فواعل الخلق الجديد في الكتابة.

ثالثاً: الانتباه الى الطبيعة وعناصرها الكثيرة التي ترافقنا يومياً، ومحاولة رسمها، لا لتهيئتنا بأن نكون فنانين، بل لنكون على تماس معها ونتشرّب معانيها الظاهرة والباطنية لعملية النمو والإثمار والإنتاج. فالفن هو هكذا في مدرسية الوعي الابتدائي.

سنرى لاحقاً أن المستويات الثلاثة تتعاضد كلياً، ويتحقق شرط التواصل مع الكتابة حتى وإن كانت مدرسية لا تعني المعنى، بل تعني فكرة المعنى، ومحاولة الوصول التقريبي لها. وأن أقلام السرد الأول؛ بصناعاتها المختلفة وألوانها الكثيرة؛ وأطوالها المتفاوتة ونوع الرصاص الذي فيها، كانت تعبّئ فينا مداخل الكتابة التعليميَّة، فالفهم الأول أن نكون قادرين على ضبط الفهم السطحي ودالّاته المعنويَّة التي تتطور تدريجياً مع مراحل الدراسة المتصاعدة سنويّاً. لتكون المستويات كلها متضامنة ومتعاضدة مع فكرة الكتابة المحفوظة، وهذا كان يقرّب دلالات المعنى المباشر لوعي صغير يتفتح بالتدريج على علوم وانسانيات كثيرة، تنحصر في دروس تعليميّة متكررة على الأجيال المتناوبة في التعليم. وكان لا بدَّ من ذلك التكرار لترسيخه من حيث المبدأ. فإنّ التكرار والتشابه الدراسي لا يعني مبدئياً استنساخ الفكرة الأساسية في منهجية التعليم المتشابه للأجيال، بل يعني في ما يعنيه تأكيد أفكار المواجهة مع الكتابة والقراءة والفهم الأولي لكيفية التفاعل معهما. ولعل ما نسميه بـ الابتدائية في مراحلنا التعليمية الأولى، هو الابتداء في الوعي القرائي والكتابي وفهم "ألغاز" الكتابة، في شقّين متضامنين يقود أحدهما الى الآخر. ويُنتجان تلاميذَ بأفكار قد تكون سطحية في بكورها، لكنها تتطور مع الزمن الدائري، وتلهمان الوعي باكتناز أبجدياتهما وتحليلهما على المدى البعيد.


" الابتدائية" هي التمهيد الى المعرفة

(3)  في ما بعد سيجد التلاميذ مع تقدمهم في كسب العلوم والمعارف والتواصل الحضاري، بأنه ليست بهم حاجة لأقلام كثيرة تسرد المسرود وتنثر المنثور، وتقيم علاقاتها مع كل تلك الأطياف الكتابية، إنما التدريب الأول كان من علاماته إيجاد الموهبة الشخصية وتوسيعها وتنميتها وتثويرها مع المراحل اللاحقة في الدرس والتعليم وضبط السطور بين أصابع الكتابة وأقلامها المتعددة. لا نقول بقلم واحد، فهذا ينتهي مع البَري والاستعمال، لكن تعدد الأقلام مع التقدم في النجاح المدرسي، يعيد النشاط الى الدماغ وخلاياه في استقراء الأثر الواضح لما تعنيه الكتابة من فهم ينمو بالتدريج الزمني المطلوب. كما يتعدد المعلمون والمدرّسون والتربويون. 


هؤلاء أقلام البدايات

(4)  تلاميذ الزمن كبروا، وكبرت معهم وظائف المواهب الكثيرة، فمنهم مَن انغمر في المشروع الدراسي الى آخره، ومنهم مَن تخلّف عنه، واكتفى بوظيفة بسيطة، حاجباً خيال الإنسان فيه، ليبقى لصيقاً بالواقع ومعطياته المتعددة. وهذا الإطلاق ليس أكيداً في تداعيات الوقت الطويل الذي يتقاطر مع الأجيال المدرسية والتعليمية، بقدر ما هو تجربة المرء في الواقع وخياله ومعطياته الكثيرة. فالمواهب؛ الأدبية بوجهٍ خاص؛ لا تشترط التحصيل الدراسي التام. على عكس المواهب العلمية التي بها حاجة الى هذا وأكثر، فسرود التعليم لا تنتهي بطبيعة الحال مع التطور الحضاري الملهِم الذي لا يقف عند حدود بعينها، ومن ثمَّ فالشهادة الجامعيَّة وما بعدها قد لا تصنع موهوباً أدبيّاً، لكنها ربما تصنع موظفاً متعلماً يكون ضمن الفواعل الاجتماعية الكثيرة، وقد لا يكون لظروف كثيرة نفهمها أو لا نريد ذلك.. كان لا بدَّ للأقلام أن تتعدد. والشهادة الجامعيَّة هي مجموعة أقلام قديمة.