تقنيَّة المفردة في بنية العرض المسرحي {أنا والمهرج}

ثقافة 2025/02/11
...

  د. علاء كريم

يعد مسرح الطفل شكلا من أشكال التعبير الإنساني، وضرورة مهمة من الضرورات البشريَّة، التي تسعى إلى التطور عن طريق الخبرات والمهارات، التي تؤدي دورها الفاعل في تحقيق القيم الفكرية والتربوية، والتي يتم بوساطتها التعبير عن حاجات الفرد والمجتمعات، إلى جانب كون أن مسرح الطفل مظهر حضاري يرتبط بتقدم المجتمعات ورقيها، فضلا عن أنه مساحة تنويريَّة ووسيط مهم لنقل الأبعاد التربويَّة وبث الوعي في جوانب اجتماعيَّة وتعليميَّة.

كما أنَّ الفنون المسرحية تعد من وسائل الاتصال الفاعلة، التي تشمل الاتجاهات الفكريّة لا والمعرفيّة لأجل رسم طريق مغاير للحياة، كون أن مرحلة الطفولة تحمل تصورات وممكنات يمكن بوساطتها الانتقال إلى رؤى مختلفة. وقد ترسم هذه الرؤى عبر النصوص المسرحيَّة الموجهة إلى الطفل رسالة نبيلة قائمة على أسس أخلاقيّة وجماليّة، تقود إلى تحقيق التعليم والمعرفة ثمّ التسلية والتثقيف. كما في مسرحية "أنا والمهرج" تأليف وإخراج الدكتورة زينب عبد الأمير، وتمثيل نخبة رائعة من الشباب، إنتاج مؤسسة أرض بابل الثقافيَّة. والتي عرضت على مسرح المنصور.

إذ اعتمدت المؤلفة في نص هذه المسرحية اللغة "لغة النص"لا برؤية تتناسب مع إدراك ووعي الطفل، وتجسّدت هذه اللغة عبر المفردات "الكلمات" التي يستطيع فهمها بيسر ومن دون صعوبة، كما تضمن النص "مفردات" جديدة الهدف منها إثراء فكر الطفل وتنمية قدراته اللغويَّة، وأيضا اللعب على اليقظة الذهنيَّة للطفل، وما يمتلكه من مهارة ليُصبح أكثر تركيزاً على الواقع، وأكثر وعياً بجسمه وبيئته ومشاعره وفي كل أحواله. حقق نص "أنا والمهرج" قدراً كبيراً من المرونة في تشكيل جمل تركيبية استهدفت فئات عمرية محددة، كما انتقت المؤلفة مجموعة الألفاظ والمعاني والتسميات المناسبة للشخوص، فهناك حوارات حددت إيقاع الشخصية في العرض المسرحي، كما في شخصية فدعوس وأيضا مدعوس، هناك من يتوقف عند معنى هذه الأسماء التي وظفتها المؤلفة بغرائبية لها دلالة تعبر عن أفعال قصدية في النص المسرحي، مثل فعل الشر الذي تمثل في شخصية "فدعوس" وفعل الخير في شخصية "مدعوس"، وأيضا شخصية "آدم" التي تعد المحرك الأساسي للعرض المسرحي، دورها المحوري الذي يلامس الأفعال الأدائيَّة لكل الشخصيات، وأيضا عكس التحول في مسار الشخصية ومجرى حياتها، نمط الأداء الذي شعرنا بوساطته هناك تغيير في تفكير هذه الشخصية، وانتقالها إلى عوالم مغايرة ومختلفة نتيجة التجارب الإنسانية التي تميّز عصراً أو موقفاً ما، كما أن التطور الحاصل في القيم الدراماتيكية للنص من شأنه أن ينتج مجموعة من الصراعات والأزمات التي تفرزها أحداث المسرحية، ليظهر لنا ذلك التحول في مسار الشخصية ومجرى حياتها. أعتقد أن إطلاق اسم "آدم" من قبل المؤلفة له دلالة قصدية لما لهذا الاسم من معنى يستخدم في اللغة وتعني "إنسان"، وفي سفر التكوين يمكن أن يُقدم اسم آدم بمعنى "البشر" بالحس الأكثر عموميَّة. وقد وظفت هذه التسميات لإعطاء المتلقي "الطفل" مجالاً أوسع لأدراك المعنى المستتر داخل الفكرة الرئيسة.

اعتمدت المخرجة في مسرحية "أنا والمهرج" المعايير المعرفية التربوية التي من شأنها أن ترتقي بذائقة الطفل الجمالية والفكرية، وعندما يكون المخرج هو المؤلف نفسه، أكيد سيترجم النص بنحو مغاير ويعطيه معناه الكامل وقيمته الحقيقية، وهذا ما تجسّد في فكر المؤلفة المخرجة د. زينب عبد الأمير، إذ عملت على تفكيك الحوار وتشريح حركة الممثل وتنظيم علاقتها مع الصوت، على اعتبار أن الحركة هي فعل أساس، وتمثل مفردة قد تكون جملة كاملة أو حرفاً أو رمزاً في بنية العرض المسرحي، وبما أن الحركة ليست إلا أجزاء لصور متحركة، لكن وظفتها المخرجة برؤى تعبيرية لحالة أو فعل أو حتى حدث، يمكن من خلالها استقطاب الأطفال لمشاهدة العرض المسرحي. فالطفل بحكم تجربته المحدودة، ومحدوديَّة العلامات التي يمكنه قراءتها ووقوفه عاجزاً أمام المعاني التي يجد نفسه غير قادر على تفسيرها، تمكنت المخرجة أن تخلق المعنى الملامس لتفكير المتلقي "الطفل"، ورسم الشكل الذي يتوافق مع المدرك الحسّي والعقلي له، وايضا السيكولوجي، حتى يمكن التأثير على رغباته وميوله وتصرفاته، فالطفل يتطلب عناية خاصة عبر تقديم أعمال تتسم بالشخصيات النموذجية "النمطيّة" والتي تتناسب وفهمه لها، مع الأخذ بنظر الاعتبار الهدف التربوي الذي يمكن تحقيقه، وعليه، فقد اهتمت المخرجة بهذه التجربة المتطورة فنياً وتقنياً، كان لربط عناصر تكوين العمل مفهوم جديد، وذلك نتيجة توظيف التقنية الرقمية عبر الإضاءة وايضا الموسيقى، فضلاً عن المؤثرات الصوتيَّة، وأيضا توظيف شاشة عرض الألعاب التي استخدمها "آدم" في غرفة نومه، وطبيعة الألعاب التي كان يستخدمها، كما ركزت الرؤية الإخراجيَّة على معالجة الأفعال التي تؤثر في الطفل وتجعل منه إنساناً ضعيفاً ومنعزلاً غير قادر على التعايش مع الناس.

إنَّ آليات توظيف الإيهام والخيال والاندماج والتعاطف والانفعال اخراجيَّاً، في هكذا أعمال يعتمد على مفهوم الشخصية، والتي تعنى بتكامل الصفات الجسدية والخلقية المميزة لفردٍ ما، بما في ذلك بناؤه الجسدي وسلوكه واهتماماته ومواقفه وقدراته وكفاءاته، وقد نجحت المخرجة في اختيار شخصياتها والتي تفاوتت في درجات الأداء، منها من قدم أداءً حركياً جميلاً وأخرى كانت تقليدية تحتاج أن تدخل في الدور أكثر وتعيش معه، كما في شخصية "الجنية السحرية" الراوية، والتي كانت بحاجة إلى أن تدخل في جو العرض العام، وأن تشكل تواصلاً مهماً للطفل وخاصة في جانبه السردي والذي يعدّ أحد أشكال الاتصال المهم والذي يمثل الثقافة البشريَّة، إذ لا يعدّ سرد الحكاية مصدراً للترفيه فحسب، بل هو أداة قيمة لتعزيز الإبداع والخيال وتنمية لمهارات الاتصال مع الطفل. 

وعليه، كانت شخصية الراوية بحاجة إلى استرخاء ذهني يساعدها على الأداء بنحو يجعل من الجمهور "الأطفال" أن يتعرفون على الشخصيات التي تحتاج إلى وصف وتعريف، وأيضا ليتوقفوا عند التحديات والانتصارات والعواطف الخاصة بهم.

 سرد الحكاية الملامس للأداء يساعد على التشاركية عبر التعاطف مع الشخصيات والتعرّف على مشاعرهم ومشاعر الآخرين وفهمها. من ثم أن كل شخصية في المسرح تحمل إيقاعاً خاصاً يختلف عن إيقاع الممثل، لذا وجب إيجاد التطابق بين الإيقاعين أي تقريب إيقاع الممثل من إيقاع الشخصية ويأتي عن طريق أبعاد الشخصية وتصميم الإيقاع على أساسها، فالبعد الطبيعي والتكوين الجسماني والشخصية الحيوية، لكل منها إيقاعها الذي يمكن بوساطته تغيير ملامح وطباع الشخصية، التي تعد جزءاً مكملاً ومهماً من تكامليَّة العرض المسرحي.

"أنا والمهرج" عرض مسرحي مهم لما حمله من أهداف ومقاصد وظفت بتقنية متعالية القيم، وحقيقة مجتمعنا يحتاج إلى هكذا أعمال، لما تحمله من وسيلة تربوية وتعليمية وإرشادية تدفع الأطفال وعوائلهم إلى صالات العرض لمتابعة العروض المسرحية الموجهة للطفل، كما أن التنويع في توظيف المفردات التقنية كان معبراً عن طبيعة الفكرة الأساسية، حيث ابدع الملحن علي خصّاف في رسم لغة الحوار موسيقياً، وأيضا إدارة الإنتاج والمسرح ومصمم الرقصات والفنيون في التصميم والديكور والأزياء والإضاءة ومصممو ومنفذو الدمى والصوت، فضلاً عن أشعار جليل خزعل، الكل حقق غايات العرض، كـ "المتعة والإثارة والتشويق والدهشة والجمال". وهذا ما يحققه الاختلاف في بناء العرض المسرحي المعاصر، وأكيد للجهة الراعية والمنتجة مؤسسة "أرض بابل الثقافيَّة" بإدارة الاعلاميّة جيهان الطائي الأثر الكبير والمهم في وصول مسرحية "أنا والمهرج" إلى عدد كبير يقدر بالآلاف من الجمهور "الأطفال".