وادي الفراشات.. توظيف المشاهد اليوميَّة

ثقافة 2025/02/11
...

 د. موج يوسف 

 تصوير: نهاد العزاوي 


"كاميرا" الروائي تعالج القضايا الاجتماعية بالفن، وهذا ما قام به أزهر جرجيس في روايته الصادرة عن دار الرافدين بعنوان "وادي الفراشات" والتي تأهلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر، إذ عمل على تفعيل خاصية "الكاميرا" في النص السردي عبر التقاط المشاهد اليومية، وجعلها مادة لقضية اجتماعية ليست محلية وإنما عالمية لتكون حبكة لروايته، وهي دفن الأطفال اللقطاء في مكان وسمّاه وادي الفراشات، وهذه العتبة الأولى للعنوان وما تحمله من شاعرية، ليقلب معادلة المعاني الاجتماعية ذات الأنساق غير الإنسانية، ويجعلها أكثر فنية وإنسانية عندما توجه الذات تساؤلاتها ما ذنب البراءة "الأطفال" لتقتل بخطيئة شهوة عابرة؟

ومزاولة هذا العمل الإنساني جعله يقع في شِرك الاتهام والجريمة، نرى في الرواية أن بطلها عزيز عواد ملقى بالسجن: "احتفظ بهم كي لا تقف عاريا في الريح. قالها النقاش بهدوء وهو يغلق الباب ويرحل.. أواخر العام الفائت زارني في السجن خالي جبران جالبا معه كيس طعام وصندوق طعام وهدايا أعانه أحد السجانين على حملها" ص 11. 

الراوي بضمير المتكلم هو البطل نفسه الملقى بالسجن من دون أهل سوى الخال جبران المسؤول على نشأته الثقافية، ولأنه مسجون بتهمة إنسانية من وجهة نظر الكاتب وغير قانونية من وجهة نظر المجتمع، فلا بد من جعل البطل متحررا من كل السلطات وأولى مراحل التحرر هي التخلّص من التابو والتي مثلها السلطة الأبوية. إذ استطاع البطل التخلص من أبيه عواد العامل في محطة سكك الحديد، وهذا الخلاص يمهد له حرية الخيار والقرار ودفع الأحداث نحو الحبكة، فهو شاب من مدنية بغداد الكرخ ترك أهله وعاش مع خاله صاحب مكتبة ولم ينجح بدراسته بسبب لوثة الأدب فقرر دراسة المسرح وتعرّف على زميلته الارستقراطية تمارة التي تسكن اليرموك وأحبها وملك قلبها بسبب الأدب أيضاً، وهنا نلحظ انفتاح النص السردي على الأجناس الأدبية الأخرى الشعر والمسرح. ولابد من لفت النظر أن لغة البطل كانت تمتزج بين الأدبية والمحكية اليومية، ولم تكن على نبرة واحدة وإنما حسب الحدث والمشهد تأتي اللغة لتمثله، وهنا يظهر وعي الكاتب في أن تكون اللغة المكتوبة هي "الكامير" المرئية التي تلتقط الصور والمشاهد وتترجمه وتدخل إلى عمق النفس وتكشف عن تراكم الصدأ أو عدمه الذي يمكّن الروائي بالتحرر من رواسب النسق الثقافي.

يتصاعد الحدث وعزيز عواد يقاتل للفوز بتمارا ويتزوجها في ظل بلاد تعيش بحصار وسنوات عجاف فيصبح المجتمع قوة ضاغطة على البطل من كل الجوانب فزوجته لم يحالفها الحظ بالإنجاب ويفصل من وظيفته، ولعل قضية الانجاب والاجهاض المتكرر هو الثيمة التي تقود الحدث إلى الحبكة ، فلا عمل له سوى مكتبة خاله جبران فيوجه كاميرته نحو بداية النكبة الثقافية في العراق، يقول البطل: "يعلم خالي جبران رأيي لن أشاركه رزقه مهما حصل. منذ الصباح لم يبع كتاباً واحداً، هذا ما فلت على لسانه. لقد عزف الناس عن دخول المكتبات وغدت القراءة ضرباً من الرفاهية لا أحد يضحي بقوت يومه من أجل كتاب فإن قال قائل القراءة غذاء العقل ردوا عليه: أغلق فمك نحن جائعون" ص 86 . 

نلحظ أن البطل استعار صوت الشعب الجائع ( نحن جائعون) ويمثل هذا الصوت فصل الكاتب عن بطله، لأنّه لو وقف بصف الكتاب والمثقف لحضرت الصنعة والمثالية الهشة، لكن جرجيس يصدق بالواقع لتبقى الرواية على خطيئتها، وهذا ما ارتكبه البطل بعدما امتهن مهنة سائق التكسي وصار أبا، وحظوظه بالأبوية لم يكتمل فسامر ابنه ضاع وتحولت حياته إلى مسلسل من البؤس، وبدأ برحلتين، البحث عن ابنه، ودفن جثث الأطفال الذين يجدهم في الشارع أو عند مكب النفيات، فينتشلهم ويغسلهم ويكفنهم ويسمهم ويقيم لهم طقسا جنائزيا: "فإن عثرت على جثة صغيرة، حملتها نحو الوادي وأقمت جنازة لائقة لقد أمسيت من حيث لا أشعر، سائق جنائز" ص 194 . 

وفي لحظة مسكه بالجرم يقول عزيز: "ذات يوم من أيام العام 2010 عثرت على طفل مرميّ قرب معمل مهجور، كان بعمر سامر فيما لو ظل الأخير حياً.. بدا لي وأنا اقلّبه أنه قد تعرض لسرقة الأعضاء. هكذا يقول شق بطنه المخيط بطريقة سيئة.. كان كبيرا على النعش الخفي في السيارة فاضطررت لوضعه في الصندوق.. ثم سرت بالنعش صوب الوادي.. نحس الحمقى كان بانتظاري على قارعة الطريق قفد اوقفني حاجز مؤقت لم أعهده من قبل وأخضعت للتفتيش - ماذا تحمل في الصندوق قال الجندي وهو يهم بفتحه: - حديد. مدّ ماسورة البندقية ليكتشف بذلك وجه الصبي ويتم القبض عليّ بتهمة تجارة الاعضاء" ص 205 .

من يتأمل النصين يلاحظ أمرين هما: أولهما كسر نمطية الشخصية ومعالجتها من ناحية سويولوجية بمعنى أن البطل عزيز عواد في ظل خيمة الفقر وشحة الحظوظ وتراكم النكبات لم يختر أن يكون مجرماً، بل فاعل اجتماعي يعزز القيم الإنسانية وفي الوقت نفسه اللجوء إلى حاضنة الطفولة ودفن الأطفال الموتى في وادي الفراشات مع طقوس تليق بالفراشة هو تعويض نفسي عن فقده لابنه، وهنا نستشف رسالة الرواية بأن الخير والشر هما قرار ذاتي، والثاني، تتوجه الكاميرا نحو الطفولة المقتولة في مجتمعنا وحتى في المجتمعات العالمية الأخرى فطفل يولد وبعد ساعات يرمى بالشارع ويموت وآخر في سنواته الأولى تباع اعضاءه وترمى جثته وكلاهما جرائم ما زالت مستمرة، فمن يوقف نزفها؟ ويعيد للطفولة شمسها؟ نرى "الكاميرا" تلتقط وتعلق على كل جريمة، وهنا يتميز موضوع الرواية بأنه متهم بالحياة والإنسان لذا تم زج البطل عزيز عواد في

السجن.

رواية "وادي الفراشات" قدمت موضوعاً ليس محلياً وقضية أكثر إنسانية عبر الالتقاط  الحي لمشاهد يومية، وتوظفيها بوعي حي أيضا، فضلاً عن البناء الصوري والمشهدي المتقنة لغته البصرية، والأسلوب الساخر الذي يشتهر به جرجيس، ليكون للرواية معنى مثلما صنع البطل لحياته معنى في أزمة 

فقدانه.