“سيرك” بين الفنتازيا والواقع.. جواد الأسدي والسرد المسرحي الصادم

ثقافة 2025/02/12
...

د.عماد هادي الخفاجي

 أنْ ينقلَ رؤية جريئة وصادمة للواقع السياسي والاجتماعي في العراق والعالم العربي، مستخدماً السخرية المريرة كوسيلة لطرح قضايا محوريَّة للنفس العراقيَّة التي أنهكتها ويلات الحروب والصراعات والتشتت، عبر شخصيَّة الكلب (دودن) ورمزيَّة خيانته، يبرز الأسدي مأساة الإنسان العراقي الذي يعاني بين قسوة الواقع وتجليات الأمل، كاشفاً في الوقت ذاته أبعاد السلطة واستغلالها للطبقات المهمشة.

لم تكن (سيرك) مجرد سردٍ تقليدي، بل تجربة بصريَّة وموسيقيَّة غنيَّة تعكسُ الألمَ الجماعيَّ والتصدعَ في بِنْية المجتمع، متماشية مع مقولة (كارل ماركس) حول تكرار التاريخ بين المأساة والمهزلة، وتجسيداً لهذه الرؤية، تصبح الثقافة أداة للقمع الناعم، إذ تُحرف الحقائق وتُعاد صياغة وعي الناس بما يخدم رغبات القائمين على السلطة، ما يجعل المسرحيَّة مرآة لواقع يُستغل فيه البسطاء ويُطمس وعيهم بطرق خفيَّة ومريرة.


الفكرة والمحور الرئيس

تدور الفكرة والمحور الرئيس لمسرحيَّة (سيرك) حول تصوير المجتمع العراقي كأنَّه يعيشُ في سيركٍ دائمٍ، حيث تتلاطم أمواجه بين الفوضى والانكسار، وتتأرجح تفاصيله بين الواقع الأليم والأمل المتشبث بالروح، بحيث يطرح العمل تساؤلاً فلسفياً عميقاً حول طبيعة الحياة العراقيَّة المعاصرة، وكيف أنَّ الإنسان العراقي يجد نفسه محاطاً بظروفٍ سياسيَّة واجتماعيَّة قاسية تكبّله، لتصبح حياته أشبه بسيركٍ يتنقل فيه بين مشاهد القمع وأحلام الهروب، بحيث تتجلى الشخصيات وكأنها دمى داخل هذا السيرك الذي لا ينتهي، وتعيش حياة مشوشة وسط دوامة من المعاناة والتهميش، وتختبر لحظات من الألم الممزوجة بأملٍ يشوبه اليأس، ورغم أنَّ الإنسان العراقي يظهر منكسراً ومتعباً من وطأة الواقع الصعب، إلا أنَّه يظل يحمل في داخله بذور المقاومة، مصراً على الصمود في وجه قسوة الحياة ومحاولاً التشبث ببصيص أملٍ يعينه على الاستمرار، وبشكلٍ أو بآخرٍ فإنَّ العملَ يُلقي الضوءَ على هذه الصراعات النفسيَّة، ويصور العراق كأرضٍ تعاني من واقع ضبابي، إذ إنَّ كل يومٍ يحملُ معه تناقضات الحياة بين الألم والرغبة العميقة في الخلاص، وبين الانكسار والأمل في غدٍ مختلف.


الأداء التمثيلي في (سيرك):

تجسيدُ الصراع ضدَّ القهر برؤية إخراجيَّة متفردة

قدمت الفنانة القديرة شذى سالم في دور (كميلة) أداءً مذهلاً يزاوجُ ببراعة بين القوة والضعف، ليعبر بصدقٍ عن صراع المرأة ضد قسوة الواقع وظلم المجتمع، تظهر (كميلة) كرمزٍ للمرأة الصلبة، التي على الرغم من الشدائد، ترفع صوتها عالياً كعلامة احتجاجٍ على ما تتعرض له من قهرٍ اجتماعي، بحيث يبرز أداء شذى سالم هذه الشخصيَّة بعمق، إذ تخلق من خلال ملامح وجهها، ونبرات صوتها، وحركاتها مشهداً يفيض بالمشاعر المتضاربة بين الإصرار والانكسار.

في لحظات الضعف، تشعر وكأنَّ (كميلة) تجسد الألم الإنساني المشترك لكل امرأة عانت من التهميش والقمع، لكنها تستعيد شجاعتها في لحظات الغضب، رافعةً صرختها الصادحة لتُسمع كلَّ من حولها، لقد استطاعت شذى سالم أنْ تجعل من هذه الصرخة نداءً معبراً عن احتياجات المرأة العميقة للعدالة والمساواة، فهي وبهذه الطريقة، أبدعت في تجسيد شخصيَّة تعبِّرُ عن معاناة طبقة كاملة من النساء، وتبث في أدائها صدى لقوة المرأة وإرادتها التي لا تُهزم بسهولة، الأمر الذي يحول مشاهدها إلى لحظاتٍ خالدة تحمل رسائل إنسانيَّة عميقة، فهي بما تمتلكه وتحديداً في هذا العرض من حضورٍ آسرٍ وأداءٍ متفرد، أثبتت شذى قدرتها الاستثنائيَّة على التعبير عن قضايا مجتمعيَّة معقدة بعمقٍ وحساسيَّة، مقدمةً أنموذجاً للمرأة العراقيَّة بقوتها وصمودها، محملةً إياها بمعانٍ من الشجاعة والإرادة التي لا تنكسر، لذلك فإنَّ هذا الأداء يعزز مكانتها كقيمة فنيَّة وثقافيَّة تمثلُ جيلًا كاملاً من النساء اللواتي ناضلن ضد الظلم والقهر، وهذا ما جعلها بحق سيدة المسرح العراقي، لأنَّ لها القدرة على ترك بصمة دائمة في ذاكرة جمهورها، بل وفي تاريخ المسرح العربي ككل.

 أما الفنان أحمد شرجي فأبدع بتجسيده شخصيَّة (لبيد) بأسلوبٍ نابضٍ بالحيويَّة والأمل، مقدماً أداءً يعكس الطموح العميق للإنسان في الهروب من قسوة الواقع عبر قوة الكتابة، فمن خلال تجسيده لهذا الروائي الحالم، يبرز (لبيد) كصوتٍ لأولئك الذين يسعون إلى التغيير ويتشبثون بالأمل، رغم ما يواجهونه من قيودٍ وأحكامٍ طاغية تمنعهم من التعبير عن أنفسهم

بحريَّة.

أحيا أحمد شخصيَّة (لبيد) كإنسانٍ طموحٍ لا يقبل الانحناء أمام الظلم، بل يسعى لإحداث تغييرٍ حقيقي، لتصبح الكتابة في يده أداة للمقاومة ضد عبثيَّة العالم الذي يجد نفسه محاصراً فيه.

لقد كان أداء أحمد شرجي لا يقتصر على تجسيد (لبيد) كفردٍ منعزلٍ في مواجهة قسوة المجتمع، بل خلق من الشخصيَّة رمزاً للطموحات الشعبيَّة والآمال المؤجلة التي تمثل جزءاً لا يتجزأ من معاناة الكثيرين، فمن خلال لمسات دقيقة في تعابير وجهه وصوته الواثق وحركاته المتزنة، جعل أحمد من (لبيد) شخصيَّة تعكسُ أصداء فكر الفيلسوف (ألبير كامو)، الذي يرى في المقاومة الشكل الوحيد للحريَّة الحقيقيَّة أمام عبثيَّة الواقع.

جسَّدَ أحمد شرجي هذه الفكرة بصدقٍ وحساسيَّة، محولاً (لبيد) إلى رمزٍ لأولئك الذين يؤمنون بقدرتهم على تجاوز التحديات من خلال الإبداع، والتعبير عن أنفسهم كوسيلة للتخلص من سطوة الظلم في كل لحظة على المسرح، لتتجلى شخصيته كحاملٍ لآمال البسطاء الذين يحلمون بالحريَّة والكرامة، ما يضفي على أدائه عمقاً إنسانياً مميزاً يجعل (لبيد) ينبض بالحياة ويحاكي قلوب الجمهور.

 أما علاء قحطان فقدم أداءً رائعاً، إذ أبرز شخصيَّة الرجل المتخاذل الذي يستسلم للواقع بدافع الخوف، ومن خلال تجسيده لهذه الشخصيَّة، عبَّرَ علاء عن نموذج الإنسان المُنهار نفسياً، بحيث جسد التوترات الداخليَّة الناتجة عن الخضوع للسلطة من خلال الشخصيَّة المناطة له بدور (ريمون) الذي مثل ذلك الإنسان الذي يختار السلامة الشخصيَّة على حساب مبادئه وقيمه الإنسانيَّة، ما جعله يتخلى عن هويته ويتحول إلى أداة طيعة بيد النظام.

يُظهر أداء علاء قحطان تميزاً في تجسيد التمزق الداخلي الذي يعاني منه (ريمون)، إذ عبَّرَ بحرفيَّة عالية عن الصراع الذي يعيشه بين ضرورة النجاة والفقدان المؤلم لإنسانيته، فمن خلال تعابير وجهه الدقيقة ونبرة صوته المترددة أثناء الأداء، أظهر علاء عمقَ المعاناة التي تناولتها شخصيته، مُعيداً إلى الأذهان واقع الكثير من الأفراد الذين يجبرون على تقديم تنازلات قاسية للبقاء في ظل الظروف القاسية، فكان حضور علاء قحطان على خشبة المسرح التجريبي بارزاً، إذ تمكن من استغلال جميع أدواته التمثيليَّة بشكلٍ مميز، ليجسد رحلة (ريمون) بشكلٍ يجذب انتباه الجمهور ويحفز مشاعرهم، فكل حركة وكل كلمة كانت تحمل دلالاتٍ قويَّة عن المعاناة والخوف والضعف، الأمر الذي يعكسُ قدرته الفائقة على نقل المشاعر المعقدة والمثقلة بالمعاني العميقة، هذا الأداء الراقي يعكسُ مهارة علاء قحطان كممثلٍ حقيقي، ما جعل شخصيَّة (ريمون) تترك بصمة عميقة في نفوس المشاهدين، وتحمل رسالة قويَّة عن آثار القمع والخوف في العالم العربي.

وختاماً، يمكن القول إنَّ جواد الأسدي، وبأسلوبه الإخراجي الفريد والمبتكر، وبقدرته الكبيرة في تحليل الشخصيَّة، واهتمامه الدقيق بالتدريب المستمر على تقنيات التمثيل، وتوجيه الممثلين نحو التركيز على تجسيد الحالات العاطفيَّة الصادقة لأجل تعزيز مصداقيَّة الشخصيات وتفاعلها العميق مع الجمهور، فلقد نجح في الارتقاء بأداء الممثل ليصبح مصدر قوة ومعرفة في العرض المسرحي، إذ استطاع بموهبته المتميزة تطوير أداء الممثلين وتعميق فهمهم للشخصيات التي يجسدونها، وبما أنَّه يرى في المسرح أداة لرفع الوعي الفكري والاجتماعي، لذلك فقد اعتمد الأسدي منهجاً يجعلُ من العرض المسرحي تجربة حسيَّة تتجاوز مجرد الترفيه، لأجل تحقيق حالة من التفاعل الحي بين العرض والمتلقي، بحيث جعل المسرح منصة للتأمل والتساؤل حول قضايا وجوديَّة واجتماعيَّة تعيد تجديد العلاقة بين الفنان والجمهور، وبفضل هذا الأسلوب، تحوّل العرض إلى تجربة أعمق وأكثر تفاعلاً، إذ تجاوز دور الممثل والذي يمثل الأداء فقط، ليصبح جسراً يربط العالم الخارجي بفضاء المسرح، الامر الذي يسمح للجمهور بالشعور بأنهم جزءٌ فاعلٌ في سرد القصة، وليسوا مجرد مشاهدين عابرين، فالمسرح عند الأسدي فضاءٌ حيويٌّ يُحفز الأفكار ويشعل المشاعر، ليترك أثراً عميقاً في نفوس الحضور، لذلك فالعرض قد نجح، ليس فقط في إيصال الرؤية الجريئة التي تماهت مع مفهوم أرتو للمسرح بعدّها وسيلة تحفيز فكري، بل أيضاً في خلق تجربة تفاعليَّة أشركت الجمهور في الحدث، وبهذا الأسلوب المبتكر، أصبح كل ممثلٍ ليس فقط مؤدياً، بل أصبح وسيطاً حياً يُشارك الجمهور في بناء حكاية تعكس آمال وآلام المجتمع، لتظل هذه التجربة عالقةً في الذاكرة، تُحفّز الحضور على التفكير بعمقٍ وإعادة النظر في الواقع الذي يعيشونه.


الأسلوب الإخراجي في مسرح جواد الأسدي

اختار المخرج جواد الأسدي أسلوباً إخراجياً بصرياً مبتكراً يعكس عمق الرسائل التي يحملها النص ليبتكر في مسرحه أسلوباً بصرياً يجمع بين السرد الصادم وعناصر المسرح الفنتازي، ليخلق تجربة مسرحيَّة تعبر بعمقٍ عن قضايا مجتمعيَّة وسياسيَّة ملحة، لذلك اعتمد الأسدي على إخراجٍ بصري فريدٍ يدمج الواقعي بالقاسي والأسطوري بالحُلمي، ما أشرك الجمهور في تجربة حسيَّة متكاملة تمزج بين ما هو ملموس وسريالي فتتداخل المشاهد بعناية لتتيح انتقال الجمهور بين عوالم مختلفة تعزز إحساس الدهشة والانبهار، وتُعمق الأبعاد الرمزيَّة التي ينقلها النص.

يظهر التأثير الجمالي لمسرحيَّة (سيرك) بشكلٍ واضحٍ في تصميم الأزياء وحركة الممثلين، حيث تعكس الأزياء تنوع الشخصيات وتتمازج ألوانها المتعددة لتصنع تناقضاً صارخاً مع الظلال القاتمة للواقع المرير، وتعمل كلوحة فنيَّة تصور الفوضى والضغوط التي يواجهها الفرد العراقي، ما يخلق توتراً دائماً بين الأمل والواقع، كذلك، يتسم المنظر المسرحي بالبساطة والتعقيد، حيث تتوزع عناصره بشكلٍ يعبّر عن حالة الفوضى والارتباك التي تسيطر على الحياة اليوميَّة، فتظهر أشجارٌ عالية بأوراق ميتة وقطع خشبيَّة مائلة مصبوغة بالأسود، الأمر الذي يجعل الشخصيات تبدو وكأنها محاصرة داخل سيركٍ اجتماعي وسياسي يعجُّ بالعبث والموت البطيء، كما تتجلى الرمزيَّة بشكلٍ واضحٍ في استخدام الوشوم على الأجساد العارية وطريقة دخولها وخروجها من المسرح، حيث تُبرز هذه العناصر التصويريَّة الازدواجيَّة في الهويَّة والانفصال عن الذات، ما يعكس الصراع الداخلي العميق الذي يعيشه كل فردٍ من الشخصيات، لتعبر هذه الوشوم عن آثار غير مرئيَّة لآلام وذكريات قاسية تراكمت عبر الزمن، وكأنها رموز للنضال الداخلي المستمر، في حين يرمز تكرار دخول الأجساد وخروجها إلى حالة دائمة من التردد بين الانصياع للواقع والرغبة العميقة في التحرر منه، فضلاً عن أنَّ هذه الأجساد المتحركة تمثل ما يشبه أشباح الهويَّة المتأرجحة، تارة منكسرة وتارة ثائرة، لتعبر عن الأمل الكامن في التحرر من قيود المجتمع القمعيَّة، ولعلَّ هذا التناقض بين ظهورها واختفائها يرمز إلى الهويَّة التي تتلاشى وتعاود الظهور، وكأنَّ الشخصيات تعيشُ صراعاً بين البقاء أسيرة واقعها المرير وبين الرغبة في الانعتاق من القيود المفروضة عليها، ما يضفي على العرض بعداً فلسفياً يعكس الضياع الوجودي والرغبة المحمومة في إعادة تعريف الذات والحريَّة.

بهذه التقنيات، يعكس الأسدي عوالم الشخصيات بعمق، بحيث يتداخل الأداء مع الفضاء البصري ليبرز الهويات المتعددة وتحديات المجتمع، فتتجسد الرسائل الرمزيَّة في كل تفاصيل العرض.

حرص الأسدي كذلك على منح الممثل مكانة خاصة، فهو مفتون بقدرته على تجسيد (نص الممثل) بأداءٍ جسدي ونفسي يحقق فرضيَّة النصوص المتعددة للعرض، لأنه يعدُّ الممثل هنا الوسيط بين النص والجمهور، حاملاً لروح التحدي والصراع في وجه الضغوطات، وفضلاً عن ذلك استعان الأسدي بموسيقى شكلت بمجمل العرض نصَّاً موسيقياً أثرى الأجواء، فكان وجوده مكملاً لعناصر العرض الأخرى، فكان انسجام الصوت مع الحركة والمشهديَّة لتكثيف طابع التجربة الفريدة، ومن خلال هذا الدمج بين السرد الصادم والفنتازيا، ومن خلال عناصر السيرك والرمزيَّة، أتاح الأسدي للجمهور فرصة مواجهة ذاته عبر العرض المسرحي الذي تجاوز الترفيه ليصبح فعلًا تأملياً عميقاً، يثير تساؤلات حول الهويَّة والوجود، ويعكس مأساة الإنسان المعاصر. 

بذلك، حقق مسرح الأسدي تجربة تعبر عن آلام وآمال الشعب، ودعا إلى التفكير وإعادة النظر في التحديات التي يواجهها المجتمع العراقي، محولاً العرض إلى صدى يتجاوز حدود المسرح ليترك أثراً في النفس.