المنتجات الأجنبيَّة تغزو الأسواق

بغداد : نور اللامي
تصوير : علي قاسم
وقف "أبو علي" يتأمل أرضه الزراعية التي كانت يوماً مصدراً لرزق وفير، لكنها اليوم تواجه تحديات كبيرة جعلتها أقل إنتاجية مما كانت عليه. قصة "أبي علي" تعكس واقعاً يعيشه أغلب المزارعين والصناعيين، إذ يواجه القطاعان صعوبات في المنافسة مع المنتجات المستوردة، رغم الجهود الحكومية الساعية لدعم الإنتاج المحلي وزيادة الاعتماد على الموارد الوطنية.
العراق، الذي كان يُعرف تاريخياً بكونه سلة غذاء للشرق الأوسط، يشهد اليوم تحولات اقتصادية كبيرة، مع تزايد الاعتماد على الاستيرادات في ظل انفتاح الأسواق العالمية. ومع ذلك، بدأت الحكومة تبذل جهوداً لتعزيز الإنتاج المحلي من خلال مبادرات تهدف إلى دعم المزارعين وتشجيع الصناعات الوطنية، سعياً لتقليل الفجوة بين الإنتاج المحلي والاستيراد.
يعبر المواطن سعد الكناني (خريج جامعي)، عن قلقه من استمرار الأوضاع الاقتصادية الراهنة، مؤكداً أن الحلول المطروحة يجب أن تترجم إلى إجراءات واقعية يشعر بها المواطن. وقال الكناني: "منذ سنوات نسمع عن خطط لدعم الصناعة والزراعة، لكن الواقع لم يتغير كثيراً، فما زلنا نعتمد على الاستيراد في كل شيء تقريباً، والوظائف شحيحة، لا سيما في القطاع الخاص الذي ما زال غير قادر على استيعاب الخريجين برواتب تضمن لهم حياة كريمة".
وتابع "إذا كان هناك توجه لدعم القطاعات الإنتاجية، فيجب أن نرى مصانع جديدة، ومزارع منتجة، وبرامج لتوظيف الشباب بدلاً من الاعتماد على التعيينات الحكومية فقط."
وأضاف الكناني أن الاستثمار في الشباب والمشاريع الصغيرة هو خطوة جيدة، لكنه شدد على ضرورة أن تكون القروض والمبادرات "غير شكلية ولا مشروطة بقيود تعجيزية"، مطالباً بتوفير بيئة اقتصادية تساعد على نمو المشاريع بدلاً من أن تعيقها الضرائب المرتفعة والبيروقراطية المعقدة. كما أشار إلى أن مشروع "طريق التنمية" قد يكون فرصة حقيقية للنهوض بالاقتصاد، لكنه تساءل عن مدى استفادة الشباب منه: "هل ستكون هناك وظائف حقيقية لنا في هذه المشاريع، أم أنها ستذهب لشركات أجنبية وعمالة وافدة كما حدث في السابق؟".
من جهتها، قالت هدى الأسدي التي تعمل في مشروع منزلي صغير، إن الاقتصاد العراقي بحاجة إلى إصلاح لا يقتصر على المشاريع الكبيرة، بل يشمل أيضاً دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، خاصة تلك التي تديرها النساء. وأضافت: "الكثير من النساء، مثلي، اضطررن إلى إنشاء مشاريع منزلية بسيطة بسبب قلة فرص العمل وارتفاع تكاليف المعيشة. لكن المشكلة أن السوق مليء بالمنتجات المستوردة الرخيصة، ما يجعل من الصعب علينا المنافسة".
ودعت الحكومة إلى توفير تسهيلات حقيقية، مثل القروض الميسرة، وتخفيض الضرائب على المشاريع الناشئة، وتشجيع الناس على شراء المنتج المحلي بدلاً من الاعتماد على المستورد في كل شيء.
كما أكدت أن البطالة ليست مشكلة الشباب فقط، بل تشمل النساء أيضاً، مشيرة إلى أن كثيراً من النساء يبحثن عن فرص عمل دون جدوى، خاصة في القطاعات الصناعية والزراعية.
تراجع الإنتاج الزراعي
قال رئيس الاتحاد المحلي للجمعيات الفلاحية التعاونية في بغداد، محمد خضر الدليمي، إن استمرار العراق في استيراد المنتجات الزراعية التي يمكن إنتاجها محلياً يُلحق ضرراً كبيراً بالفلاحين، خاصة في بغداد، حيث تشكل المنتجات المستوردة ما يقرب من 60% من السوق المحلي. وأوضح الدليمي أن الفلاح قادر على سد الحاجة المحلية خلال المواسم الزراعية، ما يلغي الحاجة للاستيراد خلال هذه الفترات، مشيراً إلى أن تحقيق ذلك يتطلب سيطرة صارمة على المنافذ الحدودية.
وأكد الدليمي أن الدعم الزراعي شهد تراجعاً كبيراً، داعياً إلى تعاون حقيقي مع الفلاحين، مشدداً على أن دعمهم ورفع مستوى الإنتاج المحلي هو الحل الأساسي لتقليل الاعتماد على الاستيراد وحماية الأمن الغذائي.
رؤية اقتصاديَّة
حذر الخبير الاقتصادي ضياء المحسن من تداعيات استمرار العراق في استيراد المنتجات التي يمكن تصنيعها محليا،ً مؤكداً أن هذا النهج يؤدي إلى إضعاف الصناعة الوطنية، وتفاقم البطالة، إضافة إلى استنزاف العملة الصعبة، وتعطيل عجلة التنمية الاقتصادية.
وأوضح المحسن أن تراجع الإنتاج المحلي هو أحد أبرز نتائج الاعتماد الكبير على الاستيراد، حيث تواجه المصانع المحلية صعوبات في المنافسة أمام المنتجات المستوردة المدعومة في بلدانها الأصلية، ما يؤدي إلى إغلاق المصانع وتسريح العمال.
وأضاف أن الاستيراد المفرط يشكل ضغطاً كبيراً على العملة المحلية، حيث يزيد الطلب على الدولار، ما يؤدي إلى انخفاض قيمة الدينار العراقي. ونتيجة لذلك، يضطر البنك المركزي إلى ضخ المزيد من الاحتياطات النقدية لتغطية الطلب المتزايد على الدولار، ما قد يؤثر سلباً في الوضع الائتماني للدولة ويزيد من معدلات التضخم.
وأكد المحسن أن هناك إجراءات ضرورية يجب على الحكومة اتخاذها لتشجيع الاستثمار في قطاعي الصناعة والزراعة، منها تحسين البيئة الاستثمارية، وتطوير البنى التحتية، إلى جانب تقديم إعفاءات ضريبية للمستثمرين، ودعم الصناعات المحلية التي تضيف قيمة اقتصادية. كما شدد على ضرورة توفير دعم مالي وفني للصناعات الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي.
وبشأن تأثير الاتفاقيات التجارية مع دول الجوار، أوضح المحسن أن هذه الاتفاقيات يمكن أن تعزز التبادل التجاري وتجذب الاستثمارات وتنقل التكنولوجيا الحديثة إلى العراق، لكنها قد تؤدي أيضًا إلى إغراق السوق بالمنتجات الأجنبية، ما يؤثر سلبًا على المنتج المحلي.
وأكد أن المنافسة غير العادلة التي تسمح للمنتجات المستوردة بدخول السوق بأسعار أقل من المنتج المحلي، تعد أحد التحديات الكبرى التي تواجه الاقتصاد العراقي. كما شدد على أن غياب الحماية الجمركية يؤثر بشكل مباشر في تنافسية المنتجات العراقية، حيث يؤدي إلى تدفق المنتجات الأجنبية الرخيصة، داعياً إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات الجمركية لحماية المنتج الوطني من المنافسة غير العادلة.
أسباب وحلول
قال المستشار المالي لرئيس الوزراء، الدكتور مظهر محمد صالح: إن العراق عانى لعقود طويلة من تبعات الحروب والصراعات العبثية التي بدأت منذ الثمانينيات، إضافة إلى الحصار الاقتصادي الذي قوض التراكم الرأسمالي المادي وأعاق بناء صناعة تحويلية وطنية، محولاً البلاد من دولة ذات فائض مالي إلى اقتصاد يعتمد على الديون الخارجية لتمويل الحياة الاقتصادية. وأوضح أن العراق، في الوقت الذي كان العالم يشهد الثورة التكنولوجية الرابعة، كان يخضع لحصار اقتصادي أُطلق عليه "الحرب الصامتة"، ما أدى إلى تراجع مساهمة القطاع الصناعي إلى أقل من 1% من الناتج المحلي الإجمالي، رغم أنه يستوعب 16% من قوة العمل.
وأشار صالح إلى أن القطاع الزراعي لم يكن في وضع أفضل، إذ تعرض لموجة تصحر خطيرة طالت أفضل الأراضي الزراعية، حيث يفقد العراق سنوياً 200 ألف دونم من أراضيه القابلة للزراعة؛ نتيجة لتراجع الحصة المائية القادمة من دول المنبع. وأضاف: "قبل ستين عامًا، عندما كان عدد سكان العراق 8 ملايين نسمة، كانت حصته المائية تتجاوز 90 مليار متر مكعب سنوياً، أما اليوم، وقد وصل عدد السكان إلى 46 مليون نسمة، فلا تتعدى حصته 35 مليار متر مكعب، ما أدى إلى انخفاض مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي إلى 4%، مع نزوح واسع للسكان من الأرياف إلى المدن بحثاً عن الاستقرار المعيشي وترك الزراعة، رغم أن قوة العمل الزراعية تمثل حوالي 22% من إجمالي القوى العاملة في البلاد".
الاقتصاد الريعي والبطالة
وأكد صالح أن الركود في القطاعين الصناعي والزراعي أدى إلى تفاقم البطالة، حيث تراكمت على مدى عقود بسبب غياب الإنتاج المحلي، موضحاً أنه "لولا الدعم الحكومي السنوي لإنتاج الحبوب بهدف الحفاظ على الأمن الغذائي، لكان وضع الزراعة في العراق أكثر سوءاً". وأشار المستشار الاقتصادي إلى أن العراق كان يضم 60 وحدة صناعية بين صغيرة ومتوسطة وكبيرة، إلا أن ما تبقى منها ويعمل فعلياً لا يتجاوز 20%، ما زاد من الاعتماد على الاستيراد. وأضاف: "نتيجةً لريعية الاقتصاد والاعتماد على النفط، تمت تغطية أكثر من 80% من احتياجات البلاد من الغذاء والمواد المصنعة عبر الاستيراد، وذلك بسبب تحرير التجارة ورفع القيود الجمركية، ما أدى إلى تراجع الاستثمار في القطاعين الصناعي والزراعي".
البرنامج الحكومي
وفي إطار الجهود الحكومية لمعالجة هذا التراجع، أوضح صالح أن "خطة التنمية الوطنية للأعوام 2024 - 2028 تسعى إلى تعزيز مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.2%، بعد أن ظلت أقل من 1.8% في السنوات السابقة". وأكد أن هذه الاستراتيجية تعتمد على تنويع القاعدة الصناعية، والتركيز على الانتقال من إنتاج النفط الخام إلى تصنيع المشتقات النفطية والصناعات البتروكيميائية. وأشار إلى أن "العراق يُصنف عالميًا في المرتبة التاسعة من حيث حجم الثروات الطبيعية، والتي تُقدَّر قيمتها السوقية بأكثر من 16 تريليون دولار، ما يتيح فرصة كبيرة للاستثمار في الموارد الطبيعية وتحويلها إلى صناعات تحقق قيمة مضافة، سواء للاستهلاك المحلي أو التصدير".
كما شدد صالح على أن إعادة بناء الصناعة التحويلية ستتم من خلال شراكة حقيقية مع القطاع الخاص، حيث تضمن الدولة 85% من التمويل السيادي للمشاريع الصناعية، بينما يتحمل المستثمرون 15% من التكلفة، مشيراً إلى أن الأولوية ستكون للمشاريع المرتبطة بالإعمار والإسكان، والصناعات الدوائية، والبنية التحتية لمشروع "طريق التنمية".
نموذج السوق الاجتماعي
وأوضح المستشار المالي أن الحكومة تعتمد نموذج السوق الاجتماعي، وهو نهج اقتصادي يحقق التوازن بين دور الدولة في التنظيم وضمان الحماية الاجتماعية، وبين منح القطاع الخاص مساحة أكبر في قيادة التنمية. وأضاف أن "هذا النموذج يختلف عن الليبرالية الاقتصادية المطلقة، إذ يوفر آلية تجمع بين المنافسة الحرة والضمان الاجتماعي لحماية الفئات الأكثر ضعفاً. وفي هذا السياق، أشار صالح إلى أن الحكومة أطلقت مصرف ريادة لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وهو امتداد لمبادرة "ريادة" التي قدمت آلاف القروض لدعم رواد الأعمال الشباب وتشجيع الابتكار. وأوضح أن "حوالي 60% من القوى العاملة في العراق تعمل في الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وهو ما يشكل ركيزة أساسية في مواجهة أزمة البطالة، التي تصل حاليًا إلى 14%، مع خطط لخفضها إلى 4% على المدى المتوسط".
"طريق التنمية" كمحرك للنمو
وأكد صالح أن النموذج الاقتصادي الذي تتبناه الحكومة يقوم على تأسيس قطاع اقتصادي قيادي يعيد التوازن للناتج المحلي، مشيراً إلى أن "مشروع طريق التنمية يمثل حجر الأساس لهذه الاستراتيجية، حيث يحاكي ما طرحه الاقتصادي الألماني ألبرت هيرشمان في كتابه استراتيجية التنمية الاقتصادية عام 1958، والذي يؤكد ضرورة تطوير قطاع رائد قادر على تحفيز باقي القطاعات". وأوضح أن هذا النموذج يعتمد على الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية ذات الأولوية، بدلاً من تشتيت الموارد عبر الاستثمار في جميع المجالات بشكل غير منظم. وبيّن أن "القطاعات الأخرى ستنمو بشكل طبيعي عبر الترابط الاقتصادي، ما يعزز تحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل".
وفي ختام حديثه، شدد المستشار المالي على أن الاستراتيجية التنموية الحالية لم تنفصل عن رؤية الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص، ضمن خطة التنمية الوطنية الخمسية التي تم إطلاقها مؤخراً. وأكد أن "النموذج الاقتصادي الذي تعمل الحكومة على تأسيسه، سيضع أسساً استرشادية لتحليل السياسات الاقتصادية، ويوجه الاستثمارات نحو القطاعات الحيوية، بهدف رفع مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي من 37% حاليًا إلى 53% خلال السنوات العشر المقبلة. وأضاف صالح أن هذه الاستراتيجية تهدف إلى إطلاق نهضة اقتصادية شاملة، من خلال تعزيز الاستثمار في الصناعة، والزراعة، والخدمات، والتكنولوجيا الرقمية، إضافة إلى الانخراط بقوة في عصر المعلوماتية والذكاء الاصطناعي، لضمان مستقبل اقتصادي أفضل.