شح المياه يدفع أهوار العراق الى حافة الجفاف

أزهر الربيعي
ترجمة: مي اسماعيل
يخشى ناشطون أن تشهد الأهوار التاريخية، التي يعتقد البعض أنها جنة عدن الأصلية، صراعاً على المياه.. ينطلق "حسيب عبد الحسن" وولده كل صباح بقاربهما وسط مياه الأهوار بحثاً عن القصب. كان منزلهما في أهوار الجبايش جنوب العراق ذات يوم محاطاً بأيكات مترعة من القصب الطويل؛ لكنهما اليوم بات عليهما التحرك لأكثر من ساعة كي يجدا قصباً مناسباً يمكنهما بيعه.
يتطلع الأب وابنه حولهما بحثاً عن بغيتهما؛ مجموعة بعيدة من النباتات الذابلة، محاطة بالطين والأرض المتشققة.. يتناقص مستوى المياه كلما اقتربا؛ فيضطران لاستخدام عصا لدفع قاربهما قدماً حتى يبدآ عملهما المضني بقطع القصب وربطه على شكل حزم. يقول عبد الحسن (70 عاماً) وهو حزين، والعرق يسيل على وجهه: "نبيع حزمة القصب بألفين وخمسمئة دينار؛ لكنَّ هذا المبلغ الضئيل لا يكفي أحياناً لدفع ثمن وقود الزورق أو جلب الطعام للمنزل. غالباً ما أعود للمنزل بحزمتين فقط".
يعرف القصب بأنَّه شريان الحياة لسكان الأهوار جنوب العراق؛ وهي أرضٌ يعدُّها البعض موطن جنة عدن. يُستخدم القصب لبناء البيوت وصنع السلع المنزليَّة الأساسيَّة، ويُستخدَم وقوداً، وحتى ضمن الأدوية التقليديَّة.
كانت الأهوار، ولقرونٍ عديدة، تكتسبُ حياتها من مياه الفيضان الربيعي لنهري دجلة والفرات؛ غير أنَّ الأهوار باتت تعاني الانحسار منذ أنْ وجه صدام حسين اتهامه لأهل المنطقة بالخيانة خلال الحرب مع إيران، وأمر بتجفيف الأهوار لإخراج المتمردين المُختبئين خلف سيقان القصب وأوراقه. خلال أوائل التسعينيات كانت أهوار العراق ما زالت تغطي مساحة نحو عشرين ألف كيلومتر مربع، لكنها انكمشت منذ ذلك الحين الى نحو أربعة آلاف كم مربع وفق آخر التقديرات. أما اليوم؛ فإنَّ جفافاً قاسياً يرتبط بالتغير المناخي ومشاريع الري العملاقة في تركيا المجاورة يهدد بطمس مناطق الأهوار كافة، ومعها تهجير السكان شبه الرُحّل الذين عاشوا هناك لآلاف السنين، نهائياً. وهناك أيضاً مخاوف من أنَّ التوترات بشأن إمدادات المياه يمكن أنْ تؤدي إلى صراعٍ جديدٍ يهدد الشرق الأوسط.
الجفاف يؤذي الأسر
ضربت موجة جفاف قاسية دول العراق وسوريا وإيران سنة 2020، وهو جفافٌ جرى تصنيفه حالياً على أنه "شديد" وفق المقياس الأميركي لمراقبة الجفاف. وكانت فترات الجفاف الطويلة ودرجات الحرارة المفرطة أسباباً ذات تأثير عقابي على سبل عيش المزارعين، الذين يعيشون حياة الكفاف على امتداد جميع أنحاء المنطقة الجنوبيَّة؛ ولكنها أثرت بشدة في سكان مناطق الأهوار. فحينما لم يعد جمع القصب مجدياً من الناحية الماليَّة؛ لجأ سلمان عبد الحسن (عمره 21 عاماً) إلى صيد الأسماك بالصعق الكهربائي؛ وهي تقنيَّة تستخدم الكهرباء لصعق الأسماك حتى يمكن اصطيادها بسهولة أكبر. ورغم أنه أسلوبٌ ضارٌّ لصيد السمك يؤذي البيئة؛ لكنه إحدى الوسائل النزيرة التي تستطيع الأسرة من خلالها إعالة نفسها. وتقول "ليلى" (والدة سلمان، عمرها 61 عاماً): "أقوم بإعداد نصف كميَّة السمك للغداء، أما باقي الأسماك الأصغر حجماً فأطعمها لقططي الثلاث". ومع استمرار انحسار المياه؛ بات العثور حتى على الأسماك أكثر صعوبة. وهو ما تصفه السيدة ليلى قائلة: "نحن مثل الأسماك تماماً.. لا ماء ولا حياة".
وعلى بُعد مئات الأمتار من منزل عبد الحسن، تكافح عائلة أخرى من أجل البقاء.. تقول "كريمة سعود" وهي سيدة خمسينيَّة تصنع الجبن: "فقدتُ كل جواميسي؛ وهي مصدر الحليب؛ بسبب الأمراض وقلة الماء، والآن أشتري الحليب من الباعة المحليين لصنع الجبن". تركت خسارة الجاموس كريمة وعائلتها تعاني وضعاً حرجاً، وتعلق بالقول: "الأرباح ضئيلة بشكلٍ مقلقٍ.. صناعة الجبن التقليديَّة هذه أكثر من مجرد مصدر رزق؛ بل هي جزءٌ من تراثنا الثقافي يربطنا بماضينا. وإذا لم تتخذ الحكومة إجراءً ملموساً فستختفي هويتنا". عانى رعاة الجاموس من خسائر كبيرة بسبب نقص المياه خلال السنوات الأخيرة. ولم تصدر الحكومة العراقيَّة أرقاماً رسميَّة عن نفوق الجاموس بسبب الجفاف وشح المياه؛ لكنَّ تقارير إعلاميَّة محليَّة تشير إلى نفوق أكثر من 4500 جاموس في أهوار الجبايش خلال عام 2022 فقط. واضطر الكثير من مربي الجاموس الى الارتحال الى أماكن أخرى بحثاً عن المياه.. وذهب البعض الى المدن بحثاً عن أعمالٍ أخرى؛ لكنَّ العديد منهم دُفعوا الى أنشطة غير مشروعة مثل؛ الاتجار بالمخدرات.
"حرب المياه وشيكة"
أصبح الضغط على مناطق الأهوار ومدن جنوب العراق شديداً لدرجة وجود مخاوف حقيقيَّة من احتمال اندلاع صراعٍ تشهده المنطقة قريباً حول المياه. يقول جاسم الأسدي (ناشط بيئي عراقي): "توُاجه مدن العراق الجنوبيَّة منافسة متزايدة على موارد المياه، وما لم يتم تنفيذ حلٍ شاملٍ فإنَّ هذه التوترات الداخليَّة قد تتفاقم إلى صراعاتٍ خطيرة.. أعتقد أنَّ حرب المياه وشيكة". تعدُّ منطقة الأهوار مهد الحضارة العراقيَّة والعالميَّة؛ حيث يسود الاعتقاد أن الكتابة والزراعة ظهرتا لأول مرة فيها؛ وقد يبدو الصراع على المياه فيها أشبه برواية مأخوذة من صفحات العهد القديم، لكنّض مثل ذلك الصراع لن يكون غير مسبوق.. فالواقع يقول إنَّ مثل هذه الصراعات باتت شائعة بشكلٍ مدهشٍ، وأصبحت تزدادُ شيوعاً..
أدت النزاعات على المياه إلى أعمال عنفٍ شهدتها دول الهند وكينيا واليمن والأراضي الفلسطينيَّة خلال السنوات الأخيرة، بينما أشعل صراعٌ على نهر هلمند اشتباكات محدودة بين القوات الإيرانيَّة والقوات الأفغانيَّة خلال العام 2023.
جمع الباحثون من معهد المحيط الهادئ (مؤسسة بحثيَّة عالميَّة معنيَّة بالمياه) قاعدة بيانات عن الصراعات القائمة التي وقعت حول العالم بسبب المياه خلال العقود الأخيرة. وقاموا بتسجيل نحو 1900 صراع واشتباك حول المياه؛ معظمها حدثت منذ العام 2000، مع ارتفاعٍ حادٍ خلال السنوات القليلة الماضية. هناك بالفعل دلائل على توترات بدأت بالفعل تتفاقم بين العراق وإيران وتركيا بشأن نقص المياه. وهذا أمرٌ اختبره الأسدي بنفسه؛ إذ كان ضمن المشاركين في جلسات مناقشات إدراج أهوار العراق ضمن قائمة الأمم المتحدة للتراث عام 2016؛ قائلاً: "عارضت كلٌ من إيران وتركيا ذلك المسعى؛ إذ إنّه سيلزمهما بالإفراج عن حصة العراق من المياه". وهو عازمٌ على الاستمرار بالعمل من أجل توفير حماية أكبر للأهوار. كما يقول: "ولدتني أمي هنا وهي في طريقها لجمع القصب.. لقد ولدتُ على ظهر قارب؛ محاطاً بالقصب والسماء الزرقاء والنجوم الساطعة فوق رأسي. ورغم التحديات التي واجهتُها وما زلتُ أواجهها؛ سأستمر بنشاطي البيئي. ولا يستطيع أحد أنْ يوقفني..".
"الماء هنا نظيف وعميق"
وبينما يواجه السكان الذين يعيشون على الجانب العراقي من نهر الفرات وضعاً أليماً؛ يستفيد السكان الذين يعيشون على الجانب التركي من المياه الوفيرة التي يطلقها سد أتاتورك. وقد زارت صحيفة "التلغراف" المنطقة المجاورة للسد الذي جرى افتتاحه خلال العام 1992، ويرتفع نحو مئتي متر؛ ما يجعله خامس أكبر سد على مستوى العالم. وأصبح مشروع بناء السد مؤسسة لصناعة صيد سمك مزدهرة طوال بضعة عقود من الزمن. يقول "محمود"، وهو صياد سمك تركي عمره 37 عاماً من بلدة بوزوفا: "المياه هنا نظيفة وعميقة.. لقد وفر لنا السد وفرة من المياه؛ ما جعل الصيد أسهل وأكثر تيسُّراً.. نقوم أساساً بصيد سمك السلمون المرقط باستخدام مصائد الأقفاص، بينما يجري اصطياد أنواع الأسماك الأخرى باستخدام الشباك". قامت تركيا ببناء أكثر من ألف سد منذ بداية الألفيَّة الجديدة، لكنَّ المسؤولين يصرون على أن مشاريعهم المائيَّة ليست مسؤولة عن تدمير الأهوار التي شهدها العراق المجاور. يُفضّل الأتراك إلقاء اللوم على سياسات نظام صدام ويزعمون أن سدود تركيا مخصصة لتوليد الطاقة فقط وليس للري الزراعي؛ وهو ما قد يؤثر سلباً في تقاسم المياه مع المنطقة. لكن أحد الخبراء الأتراك بسياسات المياه بالشرق الأوسط (الذي طلب عدم الكشف عن اسمه) قال لصحيفة التلغراف إن هذه الادعاءات مضللة: "تدعم المشاريع المائيَّة الحكوميَّة على نهر الفرات نشاطاً زراعياً كبيراً، ومشاريع السدود التركيَّة ستؤدي حتماً إلى زيادة سحب المياه؛ ما يقلل من وفرتها عموماً لدى حوض الفرات".
اتهمت سوريا والعراق بالفعل تركيا باستخدام سد أتاتورك كسلاح حرب، فخلال تسعينيات القرن العشرين هدَّدَ الرئيس التركي آنذاك "تورغوت أوزال" بتقليل تدفق المياه إلى سوريا لإجبارها على التوقف عن دعم المتمردين الأكراد جنوب تركيا. وتحت ظل غرق العراق وسوريا وسط الأزمات المحيطة بهما؛ لا يبدو أنَّ هناك الكثير ممَّا يمكن فعله لإقناع أنقرة بإدراك محنة جيرانها. ومضى الخبير التركي قائلاً: "السلطة المحدودة لحكومات الدول المجاورة تجعل من الصعب التأثير بشكل كبير في السلوك التركي؛ وهذا الوضع يشبه صراعاً ممتداً بلا حل سهل".
"أنا ابن هور الحويزة"
تمكنت صحيفة التلغراف من الوصول إلى منطقة الأهوار الواقعة على الحدود مع إيران والتي أصبحت طريق تهريب مختلف البضائع بين البلدين. ورغم وقوعها على الحدود مع إيران؛ فإنَّ الانخفاض الكبير لمنسوب المياه هنا يرتبطُ بشكلٍ مباشرٍ ببناء تسعة سدود ومحطات للطاقة الكهرومائيَّة على نهر دجلة خلال سنوات التسعينيات.. إذ تعاني قرية أبو كساف الحدوديَّة الصغيرة التي تضم نحو 200 منزل من انقطاع المياه عن مزارعها القصبيَّة؛ فاضطرت إحدى العائلات لأنْ تصبح مدافعة صريحة عن نظامها البيئي الهش. فيقول "مصطفى هاشم" (22 عاماً): "أنا ابن هور الحويزة، ومنذ اللحظة الأولى التي فتحت فيها عيني على الحياة؛ رأيت الماء والقصب والأسماك والحيوانات.. أتذكر الأيام حين كان والدي ووالدتي يأخذاني معهم لقطع الأعشاب والقصب وصيد الأسماك. لكنْ اليوم، لا توجد أهوارٌ ولا ماءٌ ولا قصبٌ ولا أسماك". بدأ مصطفى نشاطه البيئي مع والده خلال العام 2021؛ عندما بدأت المياه المحيطة بقريتهم بالانحسار. وهو يتوجه الآن إلى أعماق الأهوار الجافة على متن دراجة ناريَّة ويستخدم هاتفه المحمول لتوثيق التأثير المدمر للجفاف. باتت بقايا جثث الجاموس المنتفخة التي استسلمت للجفاف تشكل مشهداً شائعاً، وكذلك أسراب الأسماك الميتة.. يقول مصطفى: "أنا لست مجرد صوتٍ ينقل المعاناة؛ بأنَّني أعيشها يومياً.. وأنتم تعلمون مدى أهميَّة الجاموس؛ إنَّه يعدُّ جزءا من العائلة".. لكنَّ الأمر يتعلق بما هو أكثر من مجرد الثروة الحيوانيَّة؛ كما يستطرد مصطفى: "عرب الأهوار؛ أكثر من كونهم مجرد سكان.. نحن مجتمعٌ له ثقافته المتفردة، ومطبخه، وفولكلوره، ولهجته الخاصة.. وبسبب الجفاف، أصبح أسلوب حياتنا بالكامل مهدداً بالانقراض".
صحيفة التلغراف البريطانيَّة