الزيف الجميل الإطراء كأداة تهميشٍ ثقافي

ثقافة 2025/02/16
...

    أمجد نجم الزيدي

    يعد الأدب بجميع أشكاله من رواية، وشعر، ومسرح، فضاء رحباً يستوعب دراسة المظاهر الإنسانيَّة المتجذرة في الأنماط السوسيوثقافية للمجتمعات، فمن خلاله، يمكن اكتشاف العديد من الأعراف والتقاليد التي تحكم التفاعلات الاجتماعيَّة، لا سيما تلك المتعلقة بالمرأة ودورها في المجتمع.

لفت انتباهي أثناء قراءتي لمسرحية "مروحة السيدة ويندرمير" لأوسكار وايلد حوار إحدى الشخصيات، وهي السيدة ويندرمير، التي تقول فيه "أنا لا أحب الإطراء، ولا أفهم لماذا يعتقد الرجل أنه يرضي المرأة عندما يكيل لها كومة كبيرة من الأشياء التي لا تعنيها".

 ونلحظ هنا كيف يظهر هذا الجزء من النص بوضوح كيف يتناول المؤلف بحدة وسخرية العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة، مسلطاً الضوء على طبيعة الإطراء والمجاملات السطحية الشائعة في الأوساط الفيكتوريَّة زمن كتابة هذه المسرحية، إذ ينطوي النص على نقد اجتماعي ساخر للعادات الثقافيّة التي تكرّس أسلوب التفاعل بين الجنسين على أسس من الزيف والتظاهر، حيث يُعدّ الإطراء أو المجاملة وسيلة مقبولة للتواصل، لكنّه يعكس في الوقت ذاته شكلاً من أشكال النفاق الاجتماعي.

يشير وايلد إلى أنَّ إطراء الرجل للمرأة كظاهرة تعكس مظاهر القوى الاجتماعية والجندرية السائدة، في ذلك الزمن، إذ كان هناك تأطير للمرأة بوصفها كياناً يُحتفى بجماله ويتلقى الإطراء كنوع من الإقرار الضمني بدورها التقليدي، ومع ذلك، فإنه لم يكن دائماً صادقاً، بل أصبح أداة اجتماعية لإدامة الأدوار النمطية وتقييد المرأة داخل حدود ثقافية محددة، فرفض هذه الشخصية للإطراء أو المجاملات (compliments) كما ورد في نص المسرحية، يبرز وعياً فردانياً يتحدى الأعراف الاجتماعية ويفتح المجال أمام نقد أعمق للأدوار الجندرية المفروضة. 

   برع الكاتب باستخدام السخرية اللفظيَّة كأداة لتفكيك القيم الاجتماعية المتجذرة، فاختيار الكلمات مثل "كومة كبيرة من الأشياء" يعكس ازدراءً واضحاً للمبالغة وعدم الصدق في التعبير عن المشاعر، فمن خلال هذا الأسلوب، لا يقدم وايلد مجرد نقد لهذه الإطراءات، بل يفضح زيف التقاليد الاجتماعية بشكل يتسم بالفكاهة السوداء والتهكم اللاذع. 

    يتحدى وايلد هنا توقعات القارئ تجاه طبيعة العلاقات الاجتماعية المثالية المفترضة، فهو لا يعرض فقط خطاباً أدبياً عابراً، بل يفتح المجال أمام القُرّاء للتساؤل عن مدى أصالة المشاعر في التفاعلات اليوميَّة، كما يعكس نظرة وايلد المتشككة تجاه ما يمكن اعتباره "مجاملات اجتماعية بريئة"، مقترحاً أن هذه العبارات قد لا تكون سوى أداة لإخفاء الحقائق وتجنب الحوار الصادق. 

يمثل رفض المرأة في النص للإطراء، ومن منظور نسوي، رفضاً لفكرة أن قيمتها ترتكز على قبولها له أو سعيها لنيل رضا الآخرين، إذ يتحدى هذا الموقف الأدوار التقليديَّة للمرأة بوصفها موضوعاً للملاحظة والتقدير الجمالي، مشيراً إلى نضال مبكر لاستقلال الذات الأنثويَّة عن القيود الاجتماعية. 

    وظف اوسكار وايلد في هذه المسرحية السخرية النقديَّة لتسليط الضوء على تفاهة الأعراف الاجتماعية وقصورها، وضرورة الصدق في العلاقات الإنسانية، مشيراً إلى أهمية التحرّر من قيود المجاملات الزائفة لتحقيق تواصل إنساني أكثر أصالة وعمقاً.

    يمثل هذا النص نقداً اجتماعياً لاذعاً لهذه المجاملات التي تخفي تحتها نوعاً من النفاق الاجتماعي، حيث تصبح المجاملة وسيلة لإبقاء المرأة داخل حدود ثقافية تقليديّة، ومن المثير للاهتمام أن هذا النمط لا يزال حاضراً اليوم في مجتمعاتنا الحديثة، لكنه يتخذ أحياناً أشكالاً أكثر تعقيداً ومغلفة بعبارات ثقافيّة وأدبيّة تظهر في نقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى في مقالات نقديّة يُفترض أن تكون موضوعيّة، إذ نجد في هذا السياق، أن بعض تلك التعليقات النقديّة لا تخلو من مجاملات ضمنيَّة، رغم محاولات كُتّابها لإخفاء تلك الميول، فهي ربما ليست مجرد تقدير للنص أو الكاتب، بل أداة لتعزيز صورة معينة عن المرأة الكاتبة، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى استمرار تهميشها بطريقة غير مباشرة. 

    إنَّ هذه التفاعلات الحديثة كما هو الحال في رؤية وايلد الساخرة تجاه الإطراء أو المجاملة، تسلّط الضوء على استمرار المجتمع في التعامل مع المرأة من خلال منظار التقدير الجمالي أو الثقافي السطحي، بدلاً من الاعتراف بمساهماتها الفكريَّة أو الأدبيَّة بعمق وجديَّة، لذلك، فعلى الأدب أنْ يصبح منصّة مزدوجة للنقد؛ فأما أن يعكس هذه المظاهر الاجتماعية ويفضحها، أو أنْ يقدم في الوقت ذاته وسيلة لكشف زيفها وتحديها من خلال تحليل نقدي متعمّق يسعى إلى التحرّر من قيود الإطراء والمجاملات الزائفة وتحقيق خطاب أكثر صدقاً في التفاعل الإنساني والأدبي، فهي وإنْ بدت ظاهرياً نوعاً من الإطراء والمجاملة، إلا أنَّها تعمل في جوهرها على إعادة إنتاج أنماط ثقافية تسعى –كما أسلفنا- إلى تقليص دور المرأة إلى مجرد صورة جماليّة تُقابل بالثناء بدل النظر إليها كذات فاعلة ثقافياً ومعرفياً.

    يكرّس هذا الخطاب الموارب، لهيمنة خطاب اجتماعي يُضعف من مكانة المرأة بوصفها منتجة للمعرفة والفكر، ويُقلل من شأن إسهاماتها الثقافيّة لصالح إبراز جوانب هامشيّة وغير ذات صلة بجوهر إنتاجها الأدبي، وقراءة هذه الظاهرة من منظور نقدي يكشف أن المجاملة في هذه السياقات ليست سوى امتداد لخطاب مجتمعي يعيد تشكيل الهياكل التمييزيّة بأسلوب أكثر نعومة وخفاء.

    يصبح بذلك تحدي المجاملة الزائفة جزءاً من مشروع أكبر يهدف إلى تمكين المرأة في المجال الثقافي، بحيث يتم الاعتراف بها كصاحبة رؤية وإبداع، لا كموضوع للنظر والتقييم السطحي، فالأدب والفنون الإبداعيّة بصورة عامة، بقدرتها على كشف هذه الأنساق المعقدة، تسهم في دفع الخطاب نحو مساحة أكثر وعياً بعدالة التقدير والإقرار بقيمة الإبداع بعيداً عن أنماط الاستهلاك الاجتماعي السائدة.