الناقد المبدع رؤية في فضاء المشروع النقديّ

ثقافة 2025/02/16
...

  محمد صابر عبيد

لا يمكن أن تتشكل شخصيّة الناقد بمعزل عن مستويات أخر تظل عالقة ومؤثرة وموجّهة ومشاكسة دوماً وأبداً في محيط هذا التشكل، وهذا المستوى النوعيّ هو الأنموذج الآخر في شخصية الناقد حين يكون مبدعاً في أحد صنوف الإبداع في الوقت نفسه، الذي ربما سبق حضوره في شخصية الناقد قبل فعاليّة الحضور النقدي وداخل حظوة الحضور والكتابة وتمثل الأشياء، وكلما تضاعف الاستعداد النقدي الموسوعيّ للناقد من الوجوه كلها؛ انعكس هذا على فكرة المشروع النقدي بقوة جديدة.

تتفتح صورة المبدع في هذه الشخصية ضمن سياق وعي نقديّ مبكّر صاغته على نحو ما ورفدته وشجعته وقادته إلى مساحات جديدة في التفكير بالأدب، وتخففت كثيراً من تلك النظرة الرومانسيّة والعاطفيّة التي كان يتناول الموضوع الأدبيّ من أصولها وقواعدها، وهو يتطلّع إلى رؤى مغايرة يتحمّس لها باستمرار؛ ويسعى إلى الغوص في متاهاتها بشكل حرّ ورحب مشحون بالرغبة في الكتابة.

قد تكون الرغبة الكتابيَّة عنده مبكرة على هذا الصعيد، لكنّ هذه الرغبة لن تكون واضحة تماماً؛ ولم يكن سهلاً عليه الوصول إلى أيّة درجةِ وضوحٍ بشأنها بسبب عوامل كثيرة، فيجرّب أيّة كتابة وفي مختلف الأجناس الأدبيَّة المتاحة من دون تمييز يمكن أن يتلاءم مع قدراته ورغبته المتوافقة معها؛ لذا قد تكون معظم تجاربه الكتابيَّة أول الأمر عادية ليس فيها ما يثير؛ سوى أنّها تمارين على الدخول في أجواء الكتابة ومنعطفاتها وميادينها وفضاءاتها وحركيتها وإيقاعاتها، وهو ما يمكن أن يحصل فعلاً في مناسبات وأحوال وظروف كثيرة.

تبقى صورة المبدع متوهّجة في أكثر الحالات ويظلّ هذا الهاجس يفرض إيقاعه وسحره العجيب على الرغم من كلّ شيء، ومع ذلك لم يشتغل الناقد/ الشاعر مثلاً بطموح شاعر يتطلّع إلى موقع متفرد في الساحة الشعريَّة لأسباب كثيرة على نحو واضح ودقيق وشموليّ، وحسبه أنّه يظلّ يتحسس نبض الشعر في أعماقه؛ ويتواصل مع منتجه الشعريّ بكثيرٍ من البهجة والمسرّة والفرح في موازاة كتابته النقديّة.

يظلّ هذا الهاجس الإبداعي قائماً في حوزة الانشغال النقدي وموجهاً للكثير من مساراته وتجلياته، ولا سيما في عملية الاستدلال على أسرار العملية الإبداعيَّة الغائرة في أعماق النص وزواياه وظلاله، وربما من المستغرب أنّ من لم يجرّب الكتابة الإبداعيّة جيداً كيف يمكن له أن يلتقط جواهرها على النحو الذي يجب، وعلى العموم يوفّر الهاجس الإبداعيّ -الذي يحسبه الناقد المبدع متألقاً على صعيد الحضور في شخصيته- كثيراً من الآليّات؛ التي لولاها لما استطاع أن يكون الناقد الذي عليه أن يريد ويرغب ويتطلّع.

إنّ الشغل النقديّ في مجال نقد الشعر مثلاً يتطلّب مرجعية في كتابة الشعر حتى حين يتعلّق الأمر بالعمل على النصوص والظواهر السردية وغيرها، ولا سيما حين يتعلّق الأمر باستقراء النصوص وتحليلها وتأويلها وفكّ شفراتها والغوص في طبقاتها وتشكّلاتها المختلفة. إذ يتحتم على المتدخل أن يكون متسلّحاً بطاقة شعريَّة تساعده كثيراً على تقصّي الإشارات والتقاط العلامات الدفينة في أعماق النصوص، على النحو الذي يساعد على الفهم والتمثّل والتحسس والقراءة؛ من أجل الوصول إلى البرهنة على فروضه القرائيَّة الابتدائيَّة التي تبقى حاضرة في الذهن الإبداعيّ النقديّ دائماً.

يمكن القول إنَّ هذه العلاقة التي نعدّها هنا وبكثيرٍ من الجرأة جدليَّة في منطق الناقد المبدع، تمنحه الحرية الواسعة المعززة بالحماسة والحبّ والإخلاص في شغله النقديّ وتوفّر له المتعة في البحث والكشف والاستنتاج على أكثر من صعيد، لأنَّ الشاعر فيه يبقى حاضراً بحدود تقديم المتعة والمساعدة والفائدة والدعم الجماليّ؛ من دون أن يُفسِد بهاء الحضور النقديّ مطلقاً إلى بلوغ درجة من التكامل بينهما. 

هل يمكن وضع حدود معينة ونهائية للمشروع النقديّ الذي يسعى الناقد إلى إنجازه في مسيرته النقديَّة؟، وما هي قيمة المشروع النقديّ ضمن هذا المفهوم؟، وهل بوسع ناقد واحد أن يحقق مشروعا نقدياً خاصّاً به؟. 

يمكن في هذا السياق إطالة أمد الأسئلة التي تندرج في دائرة هذا الحقل وتوسيع تنوّعها على صعيد الفكرة والنتيجة معاً، لأنّ مفهوم المشروع النقديّ ظلّ مشروعاً عائماً يكتنفه الكثير من الغموض واللبس والإبهام، على الرغم من تداوليته الكبيرة لدى معظم النقاد -بمختلف أجيالهم- حين يتحدثون بشيءٍ من الزهو عن تجابهم النقديَّة.

إنّ المشروع النقديّ هو مفهوم عام وشامل وواسع وإشكاليّ ومتعدّد وكثيف في أكثر من سياق، لا يمكن التوصل إلى تحديد مفهوميّ واضح بشأنه بسهولة ويسر وانضباط، لأنَّه يمكن أن يُنظر إليه من زوايا نظر متعددة؛ ويمكن أن يُفهم بطبقات فهم متعددة أيضاً داخل هذا المضمار، إذ لكلّ ناقد تقريباً منطلق معين له يتناسب مع رؤيته النقديَّة ومنهجه وذوقه ودرجة أصالته النقدية وطبيعة مرجعياته وعمق تجربته في مجال العمل النقديّ.

لا يمكن في هذا السياق أن يدّعي ناقد معيّن -مهما بلغ من الأهمية والخطورة والإنتاج النقديّ كمّاً ونوعاً- أن ينفرد بتأسيس مشروع نقديّ خاصّ به حصراً، لأنّ مفهوم المشروع في الصياغة التي نحسبها مؤهّلة لإغنائه وملء طبقاته أكبر من عمل ناقد وحيد بمفرده، حتى وإن توفّر على قدر كبير من الخصوصية والتفرّد والخصب والمعرفة والاستعداد والموهبة. إذ إنّ مفهوم المشروع النقديّ لا ينفتح انفتاحاً كليّاً على دلالاته ومعانيه إلا في سياق عمل مشترك وجهد نقديّ جماعيّ، يتوفّر على قدر مهم وكبير من التلاؤم في الرؤية النقديّة ويتنوّع في خصوصيّة الرؤية المنهجيّة التي يشتغل عليها كلّ ناقد في المجموعة، ضمن ورشة عمل تخضع باستمرار للحوار والتقويم والجدل في كلّ مرحلة من مراحل تطوّر المشروع، وكلّ مفصل من مفاصله، وكل حلقة من حلقاته دائماً.