كوامي دوز: لماذا الشعر؟

ترجمة: طيبة علي حسين
كوامي دوز هو كاتب وأديب وشاعر غنائي بارز نالت أعماله استحسان النقاد، ويشغل مكانة أكاديمية مرموقة في جامعة نبراسكا، في مدينة لينكولن في الولايات المتحدة الامريكية. ويُعد من أبرز المهتمين بنشر الشعر الأفريقي والكاريبي، وأسهم في بروز عددٍ من الأصوات الشِّعريَّة الصَّاعدة من هاتين المنطقتين.
في هذه المقابلة، يجري الكاتب دارلينغتون تشيبويزي أنيونوي*، حواراً معه حول أعماله الأدبيَّة وسيرته الحياتيَّة. حيث أصدر كوامي العديد من الدواوين الشعريَّة إضافة إلى كتب في الرواية والنقد والمقالات، ومن مجموعاته الشعرية، هي "لا تاريخ"، التي كتبها بالتعاون مع جون كينسيلا "منشورات بيبال تري، المملكة المتحدة". يعمل دوز أستاذًا للغة الإنجليزية في جامعة جورج دبليو هولمز، ويشغل منصب محرر في مجلة "برايري شونر" مع الكاتبة جلينا لوشي. يعمل كوامي أيضًا أستاذًا في برنامج ماجستير الفنون الجميلة التابع لجامعة الباسفيك، وهو محرر سلسلة الكتب الأفريقية الشعرية، ومدير صندوق الشعر الأفريقي، والمدير الفني لمهرجان كالاباش الأدبي الدولي, فضلاً عن عضويته في أكاديمية شعراء أمريكا وزمالته في الجمعية الملكية للأدب، كوامي دوز حاصل على جائزة وندام/ كامبل المرموقة للشعر، وكان من المرشحين النهائيين لجائزة نيستاد الدولية للأدب لعام 2022.
أستهل الكاتب دارلينغتون تشيبويز أنونيي حواره مع الشَّاعر كوامي دوز بالسياق التَّاريخيّ. حيث أبوه في أثناء انتقال جده إلى نيجيريا بين عامي 1905 و1906، بينما وُلد هو في غانا، ثُم هاجر في سن العاشرة إلى جامايكا، وبعدها التحق بإحدى الجامعات في كندا, وهو الآن يقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1992.
"يا لها من رحلة!" يتحدث دارلينغتون تشيبويز أنونيي، قائلاً: لا أخفيك أنني أعجبت بالطريقة التي وصفت بها هذا التحول، حين قلت: "إن رواية رحلتي ما هي إلَّا صدى لرحلات من سبقوني". وهذا صحيح. وقد أنصفك ماثيو شينودا في مقدمته الرَّائعة لمجموعتك الشعرية "قاهر الأشباح" عندما قال إنَّ شعرك هو "أحد الأصوات الأساسيَّة في زماننا هذا، صوتٌ لم يفقد الإحساس بالدَّهشة أو فهمه للماضي". سؤالي هو: كيف أسهم الشعر في تحويل إرثك الثقافي المتنوع والمعقد إلى مصدر قوة وإلهام يضيء عالما مظلما؟
-كوامي: كان الشَّعر- أعني كتابة الشَّعر الحقيقيّ- وسيلة لتوثيق تاريخي الشَّخصيّ. الشَّعر على وجه الخصوص ساعدني في العثور على وسيلة شكليَّة لتصوير اللايقين والتَّناقضات وتعقيدات الزمن والتاريخ والذات بطرائق سمحت لي بالتَّفكير بنفسي بوصفي كيانًا مركبًا من عدة تساؤلات: من أنا؟ ومن أين أتيت؟ وأين كنت؟ وإلى أين أمضي؟
أعتقد أنَّ الشّعر، من خلال التزامه بدرجةٍ معينةٍ من الجمال، وربما التَّنظيم، أتاح لي اكتشاف صِلات لم أكن لِألاحظها تمامًا في الحياة اليوميَّة حتَّى مع شعوري الخفيّ بها.
تعلم.. لا أظن أنَّ الشعراء يمتلكون أفكارًا مميزة فقط لأنهم يُقدمون أنفسهم بوصفهم شعراء، بل أؤمن أن كتابة الشَّعر هي التي تمنحنا الفرصة، أو ربما تدفعنا، للبحث عن الأصداء والموسيقى والتَّناقضات، وغيرها من الأمور في ما نُسميه حياتنا العادية الَّتي تبدو عميقة ورائعة في تبصراتها.
الواقع أنَّ الشّعر هو السَّفينة، وبناء هذه السَّفينة يقود صانعها إلى رؤية الأشياء بطرائق كاشفة شديدة الرَّوعة والنَّفع. بوسعي أن أُضيف إلى ذلك أنَّ فهمي وإحساسي العميق بأصولي، وما أسفر عن هذا الوعي من تأثيرٍ عرضي أسهم في الكشف عن مجموعة ثقافيَّة أكبر من الأصول، فقد شعرت أنَّي "مُطالب"، بوصفي كاتبًا، بتوثيق هذا التاريخ، والنَّتيجة هي انعكاسٌ لالتزامي بقصتي الشَّخصيَّة، وفي الوقت نفسه، ما أتخيل أنَّها قصَّة الجميع.
*دارلينغتون: في تشرين الثَّاني عام 2016، وتحديداً احتفاليَّة التَّحاور مع الشُّعراء والكُتاب الأفارقة، الَّتي نظمتها وحدة الدِّراسات الأفريقيَّة والشَّرق أوسطيَّة، أخبرت الجمهور الآتي: "ثّم وقت يكون الشَّعر فيه مطلوبًا، وعندما يكون كذلك، فإنَّه يغدو الشَّيء الوحيد الَّذي سيفعل شيئًا ما", أعتقد أنَّ القوَّة الأعظم للشعر تكمن في قدرته على أن يمثل أشياء لا حصر لها للناس على اختلافهم مع بقائه على ما هو عليه:"إنَّه الكلمات الأفضل في التَّرتيب الأفضل" بحسب تعريف الشَّاعر صامويل كوليرج له. والشَّعر، مثلما يؤكد الشَّاعر وليم وردزورث، هو "فيض عفوي من العواطف الجياشة". وما حياة ديلان توماس وتجربته الشَّعرية سوى انعكاس لرؤية ووردزوث: "الشَّعر هو الشَّيء الَّذي يجعلني أضحك أو أبكي أو اتثاءب، الشَّعر هو ما يجعل أظافر قدمي تلمع، ما يجعلني أرغب في فعل هذا الأمر أو ذاك أو البقاء ساكنًا لا أفعل شيئًا." الشَّعر مدهش وعجيب، مدهشٌ قدرته على الأخذ بتلابيب العواطف البشريَّة.
-كوامي: لا أعرف حقًا، وعندما أفكر في كل هؤلاء الشعراء الذين يتحدثون عن ماهية الشعر، أجد أن إجاباتهم غالبًا ما تتكرر وتشبه الإجابة التي أميل إليها عندما أُسأل عن ذلك. إنَّهم يحاولون أحيانًا وصف ما تفعله القصيدة بهم أو ربما يتحدثون عن الأسباب الَّتي تجعلهم يكتبون القصائد.
وفي النهاية، يبدو أننا جميعًا نعود إلى الموضع نفسه. أرى أن القصائد، مثل الأغاني، هي جزءٌ من الثقافات، فهي وسيلة لتنظيم المشاعر والأفكار بشكل يساعدنا على فهمها بنحوٍ أوضح أو ربما تذكرها. يصف ووردزورث تجربةً له مع الشَّعر تذكرني بجملةٍ شائعةٍ دائمًا ما تُقتبس عن الشَّاعرة إميلي ديكنسون تقول فيها إنها شعرت كما لو أنَّ رأسها يكاد ينفجر- وأعتقد جازمًا أنَّه كان تعليقًا عابرًا من جانبها. في النهاية لكل منا استجابة جسدية مختلفة للشعور بالمتعة. إنَّهم كُلهم يكشفون كم هي قاصرة لغتهم في التعبير عن الأشياء ووصفها، مما يدفعهم إلى خلق سرديات للإجابة عمن يسأل: "لماذا الشعر"؟ لكن دعونا نسأل، بدلًا من ذلك، لماذا يتحتم علينا أن نُجيب عن هذا السؤال من الأساس؟ لماذا تسألني هذا السؤال؟ ما الذي تسعى لاكتشافه؟ هل تطلب مني تبرير السَّبب في قضائي لوقتي بهذه الطَّريقة؟ تتذكر عندما تحدثت عن زمنٍ ما تكون فيه القصيدة مطلوبة، أرجو أن تُدرك المفارقة في حديثي ذاك. إذ كُنت أحاول محاولة غير ضرورية أن أتجنب السُّؤال. الشعر ضروري سواء أكانت بنا حاجة له أم لم تكن. لا يمكن لأحد أن يجادل في ذلك مع أنَّه لا يجيب عن السؤال: "لماذا الشعر؟" واصل البشر كتابة الشعر منذ آلاف السنين في ثقافاتهم المتعددة. وقد حذوت حذوهم في نظمه، أتبعت هذا التقليد لأنني وجدت فيه معنى.
*دارلينغتون: استحضر الآن لحظات تكريمك لعمك الشاعر كوفي أوونوور الذي لقي مصرعه في العاصمة نيروبي خلال حضوره لمهرجان "ستوريموجا هاي"، وهو المهرجان الذي كنت قد اقنعته بحضوره، يقشعر بدني عندما أتذكر كلماتك المثقلة بالحزن التي ألقيتها أمام الجمهور في "سلسلة قراءات الشعر التذكارية لديبرا فاسكيز" قبيل تقديمك لقصيدة أوونوور "عدّ السنوات". كُنت تحذرهم قائلًا: "هذه القصيدة جادة لا مجال للمزاح فيها. إنَّها كئيبة وتعيسة" وستجعلك "تتساءل عن السَّبب الَّذي دفعك إلى المجيء: لتعذيب نفسك؟" بينما كنت أستمع إليك، وأرى شفتيك تستحيلان إلى ناي يعزف مرثية، تساءلت: هل الشعر ضروري في هذه اللَّحظة؟ ثم شعرت وكأن الشاعر "برتولت بريخت" يهمس في أذني: "نعم لابد أن تكون هناك قصائد في الأوقات العصيبة." كيف ساعدك الشعر في مواجهة هذه الخسائر الشَّخصية وغيرها؟
-كوامي: كانت مقدمتي لا تتعدى كونها محاولة لإضفاء جو ساخر يغطي على شعور عميق بالقلق والاضطراب، فأنا حقيقةً لا أجد منعةً بمناقشة قضية مقتل كوفي أونوور، خاصةً أني كنت قريبًا من ذلك الحدث. أما بالنسبة لسؤالك عن أهمية الشعر في مثل هذه الأوقات، فأنا لا أنكر أنني وجدت نفسي أنظم قصائد في أوقات صعبة. أحيانًا أقرر نشر تلك القصائد. لكن قرار النشر يختلف تمامًا عن الحاجة التي دفعتني لكتابتها في الأصل، ربما يكمن سر نظمي لهذه القصائد هو أنَّها تقربني من فهم ما أشعر به في لحظات معينة. يمكنني البوح بمشاعري الى شخص مقرب مني، لكنَّني عندها سأضطر إلى التعامل مع مشاعره والتفكير في ردود أفعاله أيضًا. حينها ستصبح اللحظة مختلفة تماما لأنَّها ستحاكم بمزيج من مشاعر الآخرين وتجاربهم أيضًا. ما دفعني لنظم الشعر هو أنه أصبح يعني لي شيئًا، لذا، تراني استنجد به في الأوقات العصيبة. لا أزعم بأن الكتابة ساعدتني على التأقلم نهائيًا، فهي أقرب إلى استكشاف عميقٍ لمشاعري وإظهارها بوضوح، بدلاً من تفسيرها. وهذا ساعدني على رؤية الأمر على حقيقته.
*دارلينغتون: سواء أكنتَ تكتب الروايات، أم الشعر، أو الأعمال غير الروائية، فإنك تؤمن بأن "الفن يولد التعاطف" وأن "كل أشكال الكراهية، والتعصب، والعنصرية تنبع من نقص في الخيال وعدم القدرة على تخيل مشاعر الآخرين".
أفترض أنَّ تجربة تبادل الرسائل مع أصدقاء الطفولة من دول وثقافات مختلفة أسهمت في توسيع رؤيتك للعالم وتعزيز رغبتك في التواصل معه بطريق غير مباشرٍ: عبر الكتابة أو مباشر من خلال العيش. هل سبق وتخيلتَ أن جائحة مثل كورونا ستظهر لتُربك العالم وتختبر حدود تعاطفنا وإيماننا وآمالنا كفنانين أو بشر؟
-كوامي: لست متأكدًا من أن الفن يُولِّد التعاطف على الدَّوام. لكنَّني أعتقد أنه يمكن أن يكون وسيلة إلى بلوغه. ففي النهاية ليست كل الكتابات تتمحور بالضرورة حول موضوعات إنسانية! وللإجابة عن سؤالك: لا، لم أتخيل الجائحة، لكنني عشت بما فيه الكفاية لأرى تأثير الأمراض والوصم الاجتماعي والموت والتحولات الاجتماعية الناتجة عن جوائح سابقة، لست متأكدًا ما إذا كانت جائحة كورونا قد اختبرت حقًا حدود تعاطفنا وإيماننا وآمالنا كما ذكرت؛ فهناك الكثير من الامور كانت موجودة قبلها، ولم تختفِ أثناء وجودها، ولا تزال تختبر هذه الحدود حتى الآن. لقد قلت مرات عديدة إن التعاطف هو عنصر قديم قدم البشرية، وليس هناك جديد في الإشارة الى أن التعاطف هو وسيلة لإيجاد روابط إنسانية وأمل في الأوقات الصعبة، أعتقد أن كوننا بشراً يعني أننا سنواجه دائماً تحديات تتعلق بكيفية رعايتنا لبعضنا، وكيف نعيش في هذا العالم سواء أكان الوقت حربًا، أو جائحة، أو زلزالًا، شغبًا، مرضًا شخصيًا، أو حتَّى مسابقةً رياضية.. هل تفهم ما أعنيه؟ تدفعنا تجارب مثل جائحة كورونا إلى التفكير في الصعوبات التي قد نواجهها، وكيف يمكننا الاستمرار في التعايش والتكيف معها.
*دارلينغتون: منحك كوفي أونوور والمغني وعازف الغيتار الجامايكي، بوب مارلي، على التَّوالي، هبتيّ الصَّداقة والإلهام. وتمكنت بمرور الوقت من دمجهما ليصبح لهما تأثير كبير في الأدب الأفريقي، مما جعلك تحافظ على تقليد العطاء. إذ إنك، وكريس أبانيو وبرنادين إيفاريستو، أديتم دورًا بارزًا في دعم الشعراء الأفارقة المعاصرين سواء في القارة الأفريقية أم في المهجر من خلال مبادرات مثل "سلسلة كُتيّبات صندوق الشعر الأفريقي" وجائزة "سِلِّرمَن لأفضل كتاب" التي تُمنح لأفضل كتاب شعر لشاعر من أفريقيا أو من أصول أفريقية, وجائزة "برونيل الدولية للشعر الأفريقي", التي أُعيد تسميتها تكريمًا لبرنادين إيفاريستو، لقد جعلتم العطاء أكثر جمالًا وروعة من أي وقت مضى. شكرًا لكم. ما يثير الاعجاب حقاً في الانجاز الذي حققته مع "صندوق الشعر الافريقي" هو أنَّك لا تسعى للتحكم في السرديات أو تحديد ماهية 'الشعر الأفريقي"، بل تُتيح للشعراء مساحة للتعبير بحرية وبأساليب متنوعة مع منحهم فرصة الظهور التي هم بحاجة ماسة إليها. لذا، ها أنا أكرر شكري لك مرة أخرى لجعل ذلك ممكنًا لجيل جديد من الشعراء الأفارقة لكي يقرؤوا ويُقرؤوا. ما هي خططك المستقبلية لهذه المؤسسة للاستمرار في تقديم هذا الدعم والإسهام في تطور الشعر الأفريقي؟
-كوامي: شكراً لك على كلماتك الرائعة، لا شك أن هذا المشروع كان نعمةً لجميع من شارك فيه، وما جرى خلال السنوات القليلة الماضية كان نقطة تحول بارزة في حياتي سواء على الصعيد الشخصي والمهني. بالطبع، لدينا خطط مستقبلية. ستستمر مؤسسة الشعر الأفريقي في عملها عبر سلسلة من المبادرات، منها مشروع بحثي يركز على توزيع كتب الشعر في أفريقيا، بالإضافة إلى مبادرات جديدة مثل سلسلة لترجمة الشعر الأفريقي وأخرى لكتب الشعر الأفريقي. نسعى أيضًا لضمان توافق دراسة الشعر الأفريقي مع إبداعات الشعراء الأفارقة، ونأمل، بشتى الوسائل، التعاون مع جهات كثيرة لبلوغ هذا الهدف. في الختام، لا يسعني إلا أن أشكرك على الجهد الذي بذلته في إدارة هذا الحوار، وأقدّر بحثك الدقيق حول ما قلت في مناسبات مختلفة للتحضير لهذه المقابلة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
*دارلينغتون شيبيوز أنيونوي هو محاور أدبي وكاتب، ومحرر كتاب "المعلم الجيد" الَّذي يضم مجموعة مقالات توثق حياة وإنجازات المعلمين من وجهات نظر طلابهم، كما جمع وحرر مجموعة من القصص القصيرة لكتاب أفارقة، وشارك في تحرير "الفجر: مختارات من القصص القصيرة النيجيرية". وهو أيضًا محرر مختارات دولية للأعمال الأدبية بعنوان "في عين الإبرة: الفن في زمن جائجة كورونا".
أُدرج أنيونوي في القائمة الطويلة لجائزة بابيشاي نييو للشعر الأفريقي لعام و2018، وأيضًا أُدرج في القائمة القصيرة بترشيحٍ من مؤسسة إيبادان للشعر في دورتها الأدبيَّة الافتتاحية في عام 2016، ظهرت كتابات أنيونوي في منشورات مثل بريتيل بيبر وبلاك بوي ريفيو وإيونويا ريفيو وذا شالو تيلز ريفيو ومجلة براكسيس وغيرها. كما أنه مراسل مختص بالمراجعة و النقد في مجلة براكسيس.
اجرت المقابلة دارلينغتون تشيبويزي أنيونوي