أ.د. باسم الاعسم
لأنها وسيلة تربوية ناجعة ومتفردة بامتياز، بما تتضمنه من مثيرات تجتذب الآخرين عامة، والنشء الصغير خاصة، بوصفهم صفحات ناصعة البياض يملى عليها من أفكار وأطروحات علمية واجتماعية، أجد من الضروري أن تفعل التربية الجمالية في المجتمع أولاً، وفي المؤسسات التربوية، والتعليمية ثانياً، لما لها من أدوار فاعلة في بناء الشخصية على وفق أساليب تربوية وتعليمية حديثة تسهم في أعداد أجيال سليمة التفكير، كبيرة العقول ذات رهافة ذوقية آسرة بفعل ما تتلقاه من محاضرات تعنى بالفن على الصعد كافة، إذ إن واقع الحال يشير إلى التركيز على الجانب العلمي، أو الذهني وإهمال الجوانب الفنية والجمالية، بما تمتلكه من فنون باعثة على المتعة، والتفكير والتأمل والتذوق.
وإذا ما أعتبر افلاطون أن التربية الجمالية جزءاً مركباً لا غنى عنه في التعليم، فأن فريدريش شيلر يقول "لا يمكن تحقيق الأهداف التربوية، إلا من خلال التربية الجمالية"، بما يتوافق مع ما اقره الدكتور زكريا ابراهيم، من أن إنسان العصر الحديث أحوج ما يكون اليوم إلى تربية جمالية، فما ذلك إلا لأنه في مسيس الحاجة إلى وعي جمالي يوقظ إحساسه بالقيم، فالتربية الجمالية، هي التي تدفع الإنسان لأن يسهم في العمل على زيادة ثراء الحياة عن طريق تزويد الناس بأسباب حب الحياة.
وتلك مهمة جليلة تؤديها التربية الجمالية في بناء الشخصية، وجعلها ذات هوية متفردة وعطاء ثر، ونزوع اكيد باتجاه عمل الخير، وكل ما يضفي صفة الجميل على كل فعل أو سلوك إنساني جليل.
إن مبعث التربية الجمالية هو الفن، بوصفه نشاطاً إنسانياً مقترناً بالجمال والإنسان منذ نشأته، معبراً عن سمو تطلعاته، عبر نشاط الإنسان الفنان، الذي يحارب القبح، لكي ينتصر الجمال في الحياة، والفن على حد سواء، وتلك رسالة إنسانية ذات ابعاد جمالية هي في حقيقتها تربية جمالية سامية ونبيلة.
من هنا ندرك أن التربية الجمالية، تتصل بكل معاني السمو والرفعة والحق والجمال، وعندما يتمثل الإنسان تلكم القيم الجليلة، فإنه يرتقي بإنسانيته الى مراتب متقدمة تنتشله من الغرائز الحيوانية والسلوكيات العدوانية والدوافع الشهوانية غير الإنسانية، فيغدو أنموذجاً أمثل للإنسان الأكمل على صعيد الفكر والسلوك الأجمل.
إن مؤسساتنا التربوية والتعليمية الأولية والعليا، مدعوة لتبني منهج التربية الجمالية، كوسيلة تربوية، تعجل في رسم ملامح الشخصية الإنسانية العلمية المسالمة، ذات القدرات العقلية المتوثبة، والتطلعات الحالمة بمستقبل مشرق وآمن، إذا ما أدركنا أن الطلبة هم الشريحة الأوسع التي يعول عليها في أحداث التغيير وبناء المجتمع.
إنها ليست افتراضات تنظيرية مجردة، بل تجربة بشرية ذات حقائق دامغة عززتها نتائج مختبرية واقعية، وأفرزتها حركة التطور في المجتمعات الناهضة، التي تعنى ببناء شخصية الإنسان عبر العلم والفن، إذ إن جميع الوسائل التي تتكئ عليها التربية الجمالية من قبيل الرسم والمسرح والقراءة والموسيقى تفجر طاقات الإنسان، وتطلق مواهبه المكبوتة، وتكبح في نفسه وعقله السلوكيات والأفكار المتطرفة، فيغدو عندئذ انساناً نموذجياً في السلوك والتفكير، وتلك هي نقطة الشروع في بناء الإنسان على وفق ثوابت المعايير والقيم الإنسانية والفكرية المتداولة.
ولعل من نتائج التربية الجمالية الملموسة في المجتمعات المتطورة، تلك السلوكيات المحمودة لدى الافراد على اختلاف شرائحهم، وفي مقدمة ذلك الأطفال على تباين أعمارهم، إذ لا يقدم أحد الأطفال على قطع زهرة أو قطف وردة في حديقة عامة، ولا يرمي قمامة في شارع عام، مثلما لا يسير بمظهر غير لائق، تجسيداً لما تلقاه في المؤسسات التربوية والتعليمية والأسر من تربية جمالية ذات إرشادات تربوية، واخلاقية رائعة استحالت الى سلوكيات منضبطة ومتحضرة وقدرات إنسانية فاعلة، تقوم سلوك الأفراد، فضلاً عن المتعة التي يحققها الفن، أحد أركان التربية الجمالية، إذ يتآزر الفن مع التربية في تنشئة أجيال تدرك وتجسد القيم الإنسانية الدالة على أفعال الخير والتسامح والجمال.
إن الغاية المرجوة من التربية الجمالية، ليست تذوق الفن، ومعرفة حيثيات الأعمال الفنية، وإنما توظيف الجمال والفن في تربية وتقويم السلوك الإنساني للشخصية، فعندما يدرك الفرد قيمة الجمال، تتولد في نفسه كوابح ضد القبح بأشكاله كافة، وعندئذ يستقيم البناء النفسي والإنساني والجمالي للشخصية، فتصبح مؤهلة للعمل، والبناء ومقاومة عوامل الانهيار الخلقي كالتفاهة والتطرف.
والعكس صحيح عندما تتجرد الشخصية الإنسانية من مواطن القوة والمناعة، التي تحققها التربية الجمالية، إذ سيعم عندئذ الخراب والطاقات السلبية العائقة لكل ما هو إيجابي على صعيد سلوك الشخصية ونمط تفكيرها.
إن التربية الجمالية كفيلة بإعداد أجيال تربوية سليمة الأجساد والعقول، تفكر بعلمية، وتتصرف بموضوعية، بما يخدم الصالح العام، أجيال تقرأ، وتكتب، وتعي عن وعي قيمة الزمن وحرمة الفكر وجمال الفن وقداسة العلم.
ومما يؤسف له انخفاض مناسيب التربية الجمالية، مما انعكس ذلك على ذائقة الأجيال والاستعدادات النفسية، إذ تراجعت مستويات القراءة في ما انحسرت الأنشطة الفنية، والجمالية غير الصفية، التي تشيع الجمال وتنبذ القبح، وتحث على احترام النفس والدرس، باستثناء معاهد وكليات الفنون التي تعنى بتنشئة أجيال محصنة، بالفن والجمال على الصعد النظرية والتطبيقية.
إن للتربية الجمالية إجراءات مائزة، تجد صداها الفعلي عبر السلوكيات النبيلة للشخصية الإنسانية، علماً أن مناطق اشتغال التربية الجمالية، هي الذائقة والمخيلة، والعاطفة والوجدان، لتنمية التفكير النقدي الخلاق، لأن كل ما هو جميل على صعيد الواقع الموضوعي، كما هي أعمال الأدباء والفنانين والمصممين، إنما هو نتاج التربية الجمالية، إذ إن التربية الجميلة تنتج الأفعال الجليلة.
بإيجاز أن الشخصية التي تتمثل مبادئ التربية الجمالية، تكون في منأى عن الانحراف القيمي، والزلل الأخلاقي، ما دامت قد تسورت بالجمال، تلك القيمة السامية في الخَلق والخُلق.