بيت البلابل

ثقافة 2025/02/18
...

  حبيب السامر


 اقترحت المرأة الخمسينيَّة أن تضعَ القفص الخشبي في المنور الأيمن بمواجهة الشمس ودوار الهواء ليكون ملاذاً للطيور والحمائم التي تسمع هديلها وتغريدها في كل وقت خارج البيت، بعد أن مات البلبل الأول قبل شهرين تقريباً، ولحقه الآخر بعد أن عرضته على الطبيب البيطري لأكثر من مرة ليعالج حالته من دون جدوى، توقف عن التغريد وصار لا يقوى على الطيران، يجلس كل الوقت في الخانة السفليَّة للقفص وهي تضع طعامه وماءه قريباً منه.

حين صحت المرأة صباح أحد أيّام العطل لتفاجئ زوجها بكلمة: انتهى، وظلت الكلمة مخنوقة في دواخلها، محبوسة في قفصها الصدري، لحقها إلى المطبخ وهو يريد أن يكشف سرَّ حزنها، أومأت بأصبعها نحو القفص وهو يشاهد البلبل المغرّد قد صمتت حنجرته ولملمَ جناحيه وصار كتلة ريش واحدة، فعلاً كما قال له صديقه ذات مرة: لقد تركت تربية البلابل منذ وقت طويل، تهتم به وتتعب عليه وتتعّود على تغريده وحركة طيرانه ليموت في الأخير مخلّفاً غصة كبيرة.

كلما زاره صديقه الشاعر في بيته وهو يتابع طيران البلبل الأليف ليحط على كتفه، ويقف على كرسي الكاتب ومكان جلسته المعتاد حين يغيب في سفر أو زيارة لأحد أقاربه، قال- الشاعر- مازحاً هذا بيت العصافير وغرقا بضحكة طويلة، وكلما زاره صديقه الميساني إلى بيته قال له أين صديقي البلبل، هكذا اعتاد جميع الأصدقاء على ألفته وحركة طيرانه الرشيقة.

ظل الرجل المتقاعد يفكّر كثيراً في سبب يقنعه عن كثرة العطلات التي تحدث في بيته، حين تحتاجُ زوجته إلى مساعدة منزليّة تعينها من التنظيف الأسبوعي أو أكثر، تستعين بامرأة ثلاثينيَّة تسكن في بيت متواضع في منتصف شارع كازينو لبنان، كلما دخلت البيت وغادرته تعطل جهاز أو تيبّست شجرة نبات ظل أو توقفت آلة فجأة، في كل مرة تقول شيئا، ونظل نراقب الحدث، تحلم ابنتي بسمكةٍ جميلةٍ وحوضٍ صغيرٍ كي تشاهد السمكة وهي تسبح وتأكل وترفس الماء، بعدها بأيام ودعت السمكة الصفراء حوضها بعد أن  شاهدها وهي تطفو على سطح ماء الحوض، حاول أن يبعد الظنون عن رأسه، هكذا يكرر في كل مرّة، ربما مصادفة لا أكثر.

نعود إلى حكاية البلابل، كان في البيت نباتات ظل كثيرة ومتوزعة بعناية وبعضها معلّق بسلاسل تتدلى في منتصف الهول الداخلي وعلى درجات السُّلّم الدائري، عادةً يترك أصحاب البيت بابيّ القفصين مفتوحين ليبقى البلبلان طليقين في البيت، قالت المساعدة: بعد أن أعود إلى بيتي أحدث أطفالي عن نظافة البيت والبلابل وهما يهيمان في البيت بحركة طيران واطئة وتغريد دائم، قال صغيرها: كم أتمنى أن أحصل على قفص وبلابل في بيتنا ونشاهد طيرانها، وكان يلحُّ عليها أن تجلب له بلبلاً، هكذا هي في كل مرّة وهي تتفحّص موجودات البيت بعينين دائريتين وبارزتين.

كانت المرأة الخمسينيَّة تتحدث عن أمانتها وحسن أخلاقها وهمتها في العمل، حتى طلب أهلها ان تأتي لهم وتقوم بواجباتها، كانت واحدة من اخواتها تهتم بتربية القطط، عندما دخلت - المساعدة -  البيت وشاهدت القطط تملأ مدخله والحديقة الأماميَّة، حدثتهم عن ابنتها التي شاهدت القطة الشيرازيَّة عند اقاربهم، وهي تكرر "حلوات هذه القطط"،  بعد يومين لا أكثر ثلاث قطط بأمراض مختلفة وحركة مستمرة الى الطبيب البيطري.

في كل يوم تتفحّص القفص في المنور الجانبي لتشاهد بعض طيور تدخل وتخرج من القفص المفتوح، وهي تكرر: الطيور خلقت حرة كي تلاطف رفيف أجنحتها نسائم الهواء لتبتكر حياة جميلة تتناغم مع حركة الأشجار في الفضاء الخارجي، فيما واكب الكاتب الجلوس في الحديقة الأماميَّة وهو يراقب حركة الطيور على الشجرة القريبة،  بعيداً عن عينيّ - المساعدة - البارزتين،  يسرح في أفكاره كلّما سمع البلابل تغرد خارج أعواد القفص.