د. علي إبراهيم
عرفت نازك الملائكة شاعرة ومن روّاد الشعر الحر "الحديث" إلى جانب بدر شاكر السيَّاب، وعرفت الأوساط الثقافيّة والأكاديميّة المعركة التي دارت بينهما حول من هو الأسبق لهذه الريادة وانتهت المعركة بحصر الريادة بأربعة شعراء وهم بدر شاكر السيَّاب، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي، وبلند الحيدري.
ولكنْ، قليلٌ جداً من عرف أنّ نازك الملائكة قاصة، وأنا شخصياً وأثناء بحثي في الجرائد والمجلات في الدار الوطنيَّة حصلت على قصتين لها، هما: ياسمين ومنحدر التل في عددين من مجلة الآداب اللبنانيَّة واسعة الانتشار.
وكتبت قصصاً أخرى ذكرها د. معراج أحمد معراج الندوي في مقال نشرته مجلة الكلمة وجريدة المدى وهو كاتب هندي، وقد ذكر "أن مساهمتها في مجال القصة لا تتعدى سبع قصص تحتوي عليها مجموعة تم نشرها مؤخراً". وقد أشار إلى أسماء القصص وتأريخ النشر: "الياسمين عام 1958، منحدر التل عام 1959، ضفائر السمراء عالية عام 1977، إلى حيث النخيل والموسيقى عام 1977، قصة للعطاش: قناديل لمندلي المقتولة عام 1978، الشمس التي وراء القمة عام 1979، رحلة في الأبعاد عام 1979". ووجدت في هذه المعلومة خطأ ولا بدَّ من التصحيح: في عنوان القصة الأولى "ياسمين" وليست الياسمين فهو اسم الطفلة التي دارت الأحداث حولها. ووجدت أن زميلي الدكتور عبد الرضا علي قد ذكر في كتابه "نازك الملائكة الناقدة" هاتين القصتين لكنه مرَّ عليهما مروراً سريعاً.
وقصة "ياسمين" وتبدأ بولادة "ياسمين" وتجعل الكاتبة هذه الولادة بداية لعقدة القصة، وكلما مضينا في القراءة نجد أن هذه الطفلة تمثل المعادل الموضوعي للوطن، ولدت في العراق وأعطيت اسما من مسمّيات حديقة المنزل من قبل أخيها إياد رافضاً أن تكون سعاد كما أراد والده أن يسميها تماشياً مع أسماء أخوتها "إياد ووداد" واقنع الجميع باسم ياسمين لتكون نبتة أخرى في حديقة المنزل مع النباتات التي يرعاها في حديقته، وافقه جمع أفراد الأسرة، هروباً من رتابة الأسماء وتكرارها الدائم وسجعها. وياسمين كانت ترفض أية علاقة مع أختها المغتربة تعيش في الغرب منذ أربع سنوات. وربما أرادت الراوية أن تجعل من هذا الرفض الفطري، رمزاً لرفض الثقافة الأجنبية.
وموضوع القصة بواقعيته يبدو عادياً، ولكن بحمولته الرمزية وأبعادها يصبح أكثر عمقاً في المعالجة، فالعائلة عراقية سعيدة ومتضافرة مع بعضها، متحابّين وخاصة الذين عاشوا طويلا على أرض الوطن بحلوها ومرها، أما تلك التي جاءت بمفاهيم تختلف عن ثقافتهم ومن أرض تعد غريبة ومعادية جعل الجيل الجديد والمتمثل بياسمين التي تنفر من أختها وداد وتعدها زائرة غريبة على الرغم من رابطة الدم وتحاول وداد أن تفهم الواقع التي تركته وتحاول أن تسترجع طبيعة التغيير الذي حصل داخلها: "أننا نعود إلى الوطن وقد تغيرنا وتكوّنت في أنفسنا طبقات أجنبية الطبيعة تترسّب في خلاياها وجوه غير مألوفة" وتتوصل إلى قناعة تتطلب نزع الماضي من حياتها نزعاً قاطعاً فليس من أحد يشاركها في تصوراتها الجديدة وتجسّد قناعتها بشكل واضح: "كل ماض لنا يستطيع أن يحيا في حاضرنا ما عدا ماضينا الأمريكي هذا، فنحن ملزمون بأن نخلعه ونرميه بلحظة واحدة" لقد نزعت وداد هذا الماضي رغم إدراكها "بأن هذا الماضي ليس ورقة ملصقة على سطح أنفسنا بحيث يسهل نزعه" وظل في داخلها أن التغيير الذي حصل خلال أربع سنوات هو ليس فقط من جانبها بل من الجانب الآخر وهذا ما أشارت إليه القصة وبقيت وداد مقتنعة أنها لم تتغير وحدها، بل شمل التغيير أبويها وأخيها إياد أيضا. إذ إن منطق التطور سائد في الحياة وهو قانون يعمل بغض النظر عن إرادة الإنسان. والتغيير حصل بسبب ما حصل لياسمين عندما أصابتها حالة من حالات الصرع وهي نائمة فتأخذها وداد إلى غرفتها وتعتني بها، ويبدأ التقارب بينهما.
أما في القصة الثانية لنازك الملائكة: "منحدر التل" تتناول فيها القاصة جانباً من القضية الفلسطينية من خلال عائلة تنزح فتجعلها رمزاً للتهجير الإجباري للعائلات الفلسطينية، وتدور أحداثها في فلسطين أثناء حرب 1948. وتتخذ إحدى القرى أنموذجاً بعد أن قسمت فلسطين واحتلت أرضها، وتمكن الصهاينة من الوصول إلى حدود القرية وسيطروا على تلتها وأصوات الرصاص تصلهم متقطعة أو متواصلة لدرجة أنّهم قرروا الرحيل الاضطراري من دون التفكير بمستقبلهم المجهول وبيتهم وذكرياتهم والرحيل لأنهم عُزَّل لا يمتلكوا أي سلاح، ولم يحمل أحدهم سوى بطانية ووسادة واتخذت القاصة أسرة صغيرة أنموذجاً لبقية سكان القرية. تتكون هذه الأسرة من: (عامر وسمية وهدى) ووالدهم وابن عمتهم كمال الذي رفض الهجرة وبقيَ في القرية.
وتذكر الراوية تفاصيل كثيرة ربطاً مع انشدادهم للوطن: فهدى آخر العنقود تقترح أخذ الفرس "ديدي" معهم وعدم تركها للغزاة ليقتلوها، ويوافقها والدها وماذا ستفعل سمية بكتبها العديدة؟ وتبقى فكرة الخلاص من الرحيل تدور في أذهان الراحلين وينتظرون الفرج ربما من القوات المصريَّة أو غيرها. وربما لا تدق صفارة الإنذار المطالبة بالرحيل. وفي هذه الأثناء يدخل عليهم ولدهم سمير مع أسرته لاجئين إليهم بعد أن أحرقت قريتهم.. وهذا دليل على حتميَّة الهجرة عن ديارهم.
ولم تكن نازك الملائكة قاصرة في كتاباتها القصصيَّة بالمقارنة مع جيلها، وأبلت بلاءً حسناً في تنظيرها كناقدة للشعر الحر لكنها تبقى رمزاً من رموز رواد الشعر الحديث.