غموض النص ومفهوم التوصيل

ثقافة 2025/02/18
...

  عادل الصويري


الغموض الذي يلفُّ النصوص الشعريَّة المعاصرة، لا يمكن وصفه تمرّداً حداثيّاً على القناعات التقليديَّة السائدة، لأنّه في أكثره غموض غير فني، ولا يبعث على التأمّل والتفاؤل بأنّنا ازاء فكرة أو رؤية. هو غموضٌ استعراضيٌّ لا يكشف عن همٍّ شعريٍّ لمنتج النص الذي يبدو غير جادٍ في مشروعه، ولم يقرأ شيئاً عن إشكالية الغموض والوضوح في الشعر. الإشكالية التي قدَّمت الشعر سابقاً وحتى حاليّاً على أنّه خلاصات وتصورات مطلقة، لا علاقة لها بالمكبوت والمقموع والانفعالات النفسيَّة. أي أنّه تدوين عادي للمعاني والأفكار الجاهزة، عن طريق النقل لا الابتكار، كونها مطروحة في السوق بحسب رأي الجاحظ، وبذلك يسهل إيصالها إلى الجمهور بوصفه منطلقاً وغاية، وهذا خطأ فادح يُرتكب باسم الشعر.

والإيصال ليس مهماً بحدِّ ذاته كما يقول أدونيس الذي يعتقد أنَّ بإمكان كل شاعر أن يقوم بتبسيط أسلوبه التعبيري، بحيث يسهل على المتلقي فهمه. لكنَّ السؤال الجوهري هنا: هل يتحول الفهم الناتج عن تبسيط الوسيلة التوصيليَّة للشاعر إلى وعي؟ من دون هذا الوعي، تكون عملية التوصيل مجرد تلقين يقف بالضد من أي قيمة فنيَّة وجماليَّة. 

إذن، كيف نصل إلى الغموض المنتج، أو الغموض الفنّي؟ وللإجابة عن هذا التساؤل يلزم أولاً، وقبل كل شيء تفكيك مفهوم التوصيل إلى المتلقي، والإشارة إلى أنه في أوسع شروحاته يؤدي إلى تكبيل التجربة الشعريَّة بعديد الالتباسات والتقاطعات، وذلك بمغامرة صنع المتلقي الفاعل، والقادر على الانسجام مع النصوص الإيمائية والإيحائية ذات الدلالات، لا النصوص الجاهزة. وهذه المغامرة ليست سهلة مطلقاً، فهي تحتاج إلى تغيير الرؤية الشعرية وفق المنظور الثقافي التقليدي. يرافق ذلك جدية نقدية تغادر هي الأخرى معايير النقد القديمة. هذا يعني خلق منظومة ثقافية جديدة تفهم واقعها الراهن وتحدياته، مثلما هي قادرة على دراسة الماضي بشكل متجرّد، يبحث في الصراعات الإيديولوجية، من دون أن يقع في فخاخ الاندماج بها. وبهذا الخلق الجديد للمنظومة الجديدة، نستطيع أن نقول إنّنا هدمنا أساسات الالتباس.

وبعد تفكيك مفهوم التوصيل التقليدي، وخلق المنظور الثقافي الجديد؛ ندخل في المرحلة الثانية والمهمة، لنصل إلى فنِّيةِ النص، والرؤية التي يطرحها الشاعر فيه، من دون التشكّي من غموض النص، لأنّنا اندمجنا فعليَّاً مع منظومة التوصيل الجديدة على مستوى الشاعر والقارئ، ومن قبلهما المؤسسات المعنية. هذه المرحلة غير معنية بأيِ شكل من الأشكال بأي قطيعة بين مفهومي الغموض والوضوح، فهي متصالحة مع المفاهيم، ولا يعنيها شيء غير الرؤية المواكبة لكل التطورات الحياتية، والتي أحدثت انفجارها الهائل في وعي المبدعين، وجعلتهم يعيدون النظر في أساليبهم التعبيريَّة والتوصيليَّة. فالأساليب السابقة كانت لها ظروفُها ومعطياتُها الخاصة التي فرضت في وقتها جاهزية المعنى والأفكار المتداولة، بينما يطلب الواقع الحالي من المبدع أن يخلق الفضاءات النصيَّة، والغوص في أدق تفاصيل الانفعال والتخيّل، فيكون بذلك مبدعاً خلّاقاً يعمل إلى مدِّ جسور تواصليَّة مع قرّائه الذين هجروا إلى غير رجعة ذاكرتهم الحفظيَّة السابقة، ودخلوا سعيدين في ذاكرتهم الجديدة. ذاكرة التحولات، وحركيتها الممتعة.

وبالعودة إلى عدم القطيعة مع المفاهيم، ينبغي عدم اعتبار الرؤية أو الفنِّيَّة في النص "الغامض"، انتصاراً أبديّاً مطلقاً للغموض، فقد قلنا في البداية أنَّ غموض أكثر النصوص المعاصرة، هو غموض استعراضي لا يكشف عن هم شعري، لذلك فالحديث عن الغموض هو احتفال بالرؤية التي تنتج عنه وليس احتفالاً به كشيءٍ نهائيٍّ، فالشعر لا يعتني بالأشياء النهائيَّة، وبذلك يمكن أن نحتفل بالرؤية المتأتِّية من الوضوح بالمستوى نفسه، فلسنا بصدد إنشاء أحزاب نصّيّة، بقدر ما نريد الانحياز إلى الدهشة التي تبتكر ما لم يُعرف سابقاً، ولم تصل إليه اليقينات التي يتداخل بها الديني بالتاريخي والاجتماعي. الدهشة المبتكرة هنا، تسير بالمبدع إلى آفاق أخرى، وتبتعد به عن عوالم الخطابة حيث النصح والإرشاد،  وعن العلم وعوالمه شديدة الدقة في قول الأشياء. تبتعد به، لتدخله إلى الأعماق، وفيها يتمكن من قول الموج الصاخب، وأصوات الرعد والمطر الغزير. تدخله في دوامة من القلق الذي يجعله يكتب من الأماكن القصيَّة المغايرة، بلغةٍ تخرج الفعل القرائي من حيزه التفسيري إلى فضائه التأويلي.